الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: العناية شرح الهداية
.(بَابُ مَا يَكُونُ يَمِينًا وَمَا لَا يَكُونُ يَمِينًا): الشَّرْحُ: بَابُ مَا يَكُونُ يَمِينًا وَمَا لَا يَكُونُ يَمِينًا: لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ ضُرُوبِ الْأَيْمَانِ بَيَّنَ مَا يَكُونُ يَمِينًا مِنْ الْأَلْفَاظِ وَمَا لَا يَكُونُ يَمِينًا (وَالْيَمِينُ بِاَللَّهِ) أَيْ بِهَذَا الِاسْمِ (أَوْ بِاسْمٍ آخَرَ مِنْ أَسْمَائِهِ كَالرَّحْمَنِ وَالرَّحِيمِ أَوْ بِصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ ذَاتِهِ الَّتِي يُحْلَفُ بِهَا عُرْفًا كَعِزَّةِ اللَّهِ وَجَلَالِهِ وَكِبْرِيَائِهِ) وَالْمُرَادُ بِالِاسْمِ هَاهُنَا لَفْظٌ دَالٌّ عَلَى الذَّاتِ الْمَوْصُوفَةِ بِصِفَةٍ كَالرَّحْمَنِ وَالرَّحِيمِ وَبِالصِّفَةِ الْمَصَادِرُ الَّتِي تَحْصُلُ عَنْ وَصْفِ اللَّهِ تَعَالَى بِأَسْمَاءِ فَاعِلِيهَا كَالرَّحْمَةِ وَالْعِلْمِ وَالْعِزَّةِ. وَالصِّفَةُ عَلَى نَوْعَيْنِ: صِفَةِ ذَاتٍ وَصِفَةِ فِعْلٍ، لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يَجُوزَ الْوَصْفُ بِهِ وَبِضِدِّهِ أَوْ لَا. وَالثَّانِي صِفَةِ الذَّاتِ كَالْعِزَّةِ وَالْعَظَمَةِ وَالْعِلْمِ. وَالْأَوَّلُ صِفَةُ الْفِعْلِ كَالرَّحْمَةِ وَالْغَضَبِ لِجَوَازِ أَنْ يُقَالَ رَحِمَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَلَمْ يَرْحَمْ الْكَافِرِينَ وَغَضِبَ عَلَى الْيَهُودِ دُونَ الْمُسْلِمِينَ، وَمَشَايِخُنَا الْعِرَاقِيُّونَ عَلَى أَنَّ الْحَلِفَ بِصِفَاتِ الذَّاتِ يَمِينٌ وَبِصِفَاتِ الْفِعْلِ لَيْسَ بِيَمِينٍ، وَيَلْزَمُهُمْ أَنْ يَكُونَ وَعِلْمُ اللَّهِ يَمِينًا، وَاعْتَذَرُوا بِأَنَّهُ الْقِيَاسُ وَلَكِنَّهُ تُرِكَ لِمَجِيئِهِ بِمَعْنَى الْمَعْلُومِ، وَمَشَايِخُ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ عَلَى أَنَّ الْحَلِفَ بِكُلِّ صِفَةٍ تَعَارَفَ النَّاسُ الْحَلِفَ بِهَا يَمِينٌ وَبِكُلِّ صِفَةٍ لَمْ يَتَعَارَفُوهُ لَيْسَ بِيَمِينٍ، وَهُوَ مُخْتَارُ الْمُصَنِّفِ رَحِمَهُ اللَّهُ. يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ يُحْلَفُ بِهَا عُرْفًا. وَقَوْلُهُ (لِأَنَّ الْحَلِفَ) بِهَا مُتَعَارَفٌ (قَوْلُهُ وَمَعْنَى الْيَمِينِ وَهُوَ الْقُوَّةُ إلَخْ) ذَكَرَهُ اسْتِظْهَارًا لِأَنَّهُ لَمَّا بَنَى الْأَيْمَانَ عَلَى الْعُرْفِ كَانَ وُجُودُهُ مُغْنِيًا عَنْ النَّظَرِ إلَى غَيْرِهِ. قَالَ (إلَّا قَوْلَهُ وَعِلْمِ اللَّهِ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ يَمِينًا) لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَارَفٍ. وَلِأَنَّهُ يُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ الْمَعْلُومُ، يُقَالُ اللَّهُمَّ اغْفِرْ عِلْمَك فِينَا: أَيْ مَعْلُومَك (وَلَوْ قَالَ وَغَضَبِ اللَّهِ وَسَخَطِهِ لَمْ يَكُنْ حَالِفًا) وَكَذَا وَرَحْمَةِ اللَّهِ؛ لِأَنَّ الْحَلِفَ بِهَا غَيْرُ مُتَعَارَفٍ؛ وَلِأَنَّ الرَّحْمَةَ قَدْ يُرَادُ بِهَا أَثَرُهُ، وَهُوَ الْمَطَرُ أَوْ الْجَنَّةُ وَالْغَضَبُ وَالسَّخَطُ يُرَادُ بِهِمَا الْعُقُوبَةُ. الشَّرْحُ: وَقَوْلُهُ (إلَّا قَوْلَهُ وَعِلْمُ اللَّهِ) اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ مِنْ قَوْلِهِ أَوْ بِصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ الَّتِي يُحْلَفُ بِهَا عُرْفًا. فَإِنَّ الْيَمِينَ بِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ مُتَعَارَفًا كَانَ اسْتِثْنَاؤُهُ عَنْ الْعُرْفِ مُنْقَطِعًا، وَالْكَلَامُ فِي قَوْلِهِ وَلِأَنَّهُ يُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ الْمَعْلُومُ كَالْكَلَامِ فِي قَوْلِهِ وَمَعْنَى الْيَمِينِ وَهُوَ الْقُوَّةُ حَاصِلٌ فِي أَنَّهُ مَذْكُورٌ لِلِاسْتِظْهَارِ. نَعَمْ الْعِرَاقِيُّونَ يَحْتَاجُونَ إلَى ذِكْرِ مَعْذِرَةٍ عَنْ وُرُودِهِ عَلَى أَصْلِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ. وَقَوْلُهُ (لِأَنَّ الرَّحْمَةَ قَدْ يُرَادُ بِهَا أَثَرُهَا) مَنْقُوضٌ بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ يُقَالُ اُنْظُرْ إلَى قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْمُرَادُ أَثَرُهُ، وَإِلَّا لَكَانَ بِمَعْنَى الْمَقْدُورِ لِكَوْنِ الْقُدْرَةِ غَيْرِ مَرْئِيَّةٍ فَتَكُونُ كَالْعِلْمِ وَمَعَ ذَلِكَ يُحْلَفُ بِهَا. وَالْحَقُّ أَنَّ مَبْنَى الْأَيْمَانِ عَلَى الْعُرْفِ، فَمَا تَعَارَفَ النَّاسُ الْحَلِفَ بِهِ كَانَ يَمِينًا. وَالْحَلِفُ بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى مُتَعَارَفٌ، وَبِعِلْمِهِ وَرَحْمَتِهِ وَغَضَبِهِ غَيْرُ مُتَعَارَفٍ وَلِهَذَا قَالَ مُحَمَّدٌ: وَأَمَانَةُ اللَّهِ يَمِينٌ، ثُمَّ لَمَّا سُئِلَ عَنْ مَعْنَاهُ قَالَ: لَا أَدْرِي، فَكَأَنَّهُ وَجَدَ الْعَرَبَ تَحْلِفُ بِأَمَانَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَادَةً فَجَعَلَهُ يَمِينًا كَأَنَّهُ قَالَ وَاَللَّهِ الْأَمِينِ. (وَمَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ لَمْ يَكُنْ حَالِفًا كَالنَّبِيِّ وَالْكَعْبَةِ) لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ كَانَ مِنْكُمْ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ أَوْ لِيَذَرْ» (وَكَذَا إذَا حَلَفَ بِالْقُرْآنِ) لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَارَفٍ، قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَعْنَاهُ أَنْ يَقُولَ وَالنَّبِيِّ وَالْقُرْآنِ، أَمَّا لَوْ قَالَ أَنَا بَرِيءٌ مِنْهُمَا يَكُونُ يَمِينًا؛ لِأَنَّ التَّبَرِّي مِنْهُمَا كُفْرٌ. الشَّرْحُ: (وَمَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ لَمْ يَكُنْ حَالِفًا مِثْلَ أَنْ يَقُولَ وَالنَّبِيُّ وَالْقُرْآنُ وَالْكَعْبَةُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ كَانَ مِنْكُمْ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ أَوْ لِيَذَرْ») رَوَى مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَدْرَكَ عُمَرَ وَهُوَ يَسِيرُ فِي رَكْبٍ وَهُوَ يَحْلِفُ بِأَبِيهِ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: إنَّ اللَّهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ، فَمَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ» قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ (أَمَّا لَوْ قَالَ أَنَا بَرِيءٌ مِنْهُ يَكُونُ يَمِينًا لِأَنَّ التَّبَرِّي مِنْهُمَا) أَيْ مِنْ النَّبِيِّ وَالْقُرْآنِ (كُفْرٌ) وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: سَلَّمْنَا أَنَّ التَّبَرِّي مِنْهُمَا وَكَذَا مِنْ كُلِّ كِتَابٍ سَمَاوِيٍّ كُفْرٌ، لَكِنْ كَوْنُهُ كُفْرًا لَيْسَ بِيَمِينٍ وَلَا يَسْتَلْزِمُهَا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ بِحَيَاتِك لَأَفْعَلَن كَذَا وَاعْتَقَدَ أَنَّ الْبَرَّ بِهِ وَاجِبٌ كَفَرَ وَلَيْسَ بِيَمِينٍ. وَالْجَوَابُ سَيَجِيءُ عِنْدَ قَوْلِهِ إنْ فَعَلَ كَذَا فَهُوَ يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ. قَالَ (وَالْحَلِفُ بِحُرُوفِ الْقَسَمِ، وَحُرُوفُ الْقَسَمِ الْوَاوُ كَقَوْلِهِ وَاَللَّهِ وَالْبَاءُ كَقَوْلِهِ بِاَللَّهِ وَالتَّاءُ كَقَوْلِهِ تَاللَّهِ) لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مَعْهُودٌ فِي الْأَيْمَانِ وَمَذْكُورٌ فِي الْقُرْآنِ. الشَّرْحُ: قَالَ: (وَالْحَلِفُ بِحُرُوفِ الْقَسَمِ) الْحَلِفُ بِاَللَّهِ إنَّمَا يَكُونُ بِحَرْفِ الْقَسَمِ ظَاهِرًا أَوْ مُضْمَرًا، وَبَحْثُ حُرُوفِ الْقَسَمِ وَكَوْنِ الْبَاءِ أَصْلًا وَغَيْرِهَا بَدَلًا وَجَوَازُ إضْمَارِ الْحُرُوفِ وَالنَّصْبِ بَعْدَ الْإِضْمَارِ عَلَى مَا اخْتَارَهُ الْبَصْرِيُّونَ أَوْ الْجَرُّ عَلَى مَا اخْتَارَهُ الْكُوفِيُّونَ كُلُّهُ وَظِيفَةٌ نَحْوِيَّةٌ فِي الْأَصْلِ، وَالْأُصُولِيُّ يَبْحَثُ عَنْهَا مِنْ حَيْثُ اسْتِنْبَاطُ الْمَسَائِلِ الْفِقْهِيَّةِ مِنْهَا وَالْوَاصِلُ إلَى حَدِّ الِاشْتِغَالِ بِكِتَابِ الْهِدَايَةِ لابد وَأَنْ يَكُونَ قَدْ حَلَفَ ذَلِكَ وَرَآهُ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْإِضْمَارِ وَالْحَذْفِ بَقَاءُ أَثَرِ الْمُضْمَرِ دُونَ الْمَحْذُوفِ. وَالْمُصَنِّفُ ذَكَرَ الْإِضْمَارَ فِي الرِّوَايَةِ وَالْحَذْفَ فِي التَّعْلِيلِ بِطَرِيقِ الْمُسَاهَلَةِ كَذَا فِي النِّهَايَةِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ أَطْلَقَ الْإِضْمَارَ بِالنَّظَرِ إلَى الْجَرِّ وَالْحَذْفَ بِالنَّظَرِ إلَى النَّصْبِ. (وَقَدْ يُضْمِرُ الْحَرْفَ فَيَكُونُ حَالِفًا كَقَوْلِهِ اللَّهِ لَا أَفْعَلُ كَذَا) لِأَنَّ حَذْفَ الْحَرْفِ مِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ إيجَازًا، ثُمَّ قِيلَ يُنْصَبُ لِانْتِزَاعِ الْحَرْفِ الْخَافِضِ، وَقِيلَ يُخْفَضُ فَتَكُونُ الْكَسْرَةُ دَالَّةً عَلَى الْمَحْذُوفِ، وَكَذَا إذَا قَالَ لِلَّهِ فِي الْمُخْتَارِ لِأَنَّ الْبَاءَ تُبَدَّلُ بِهَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {آمَنْتُمْ لَهُ}. أَيْ آمَنْتُمْ بِهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: إذَا قَالَ وَحَقِّ اللَّهِ فَلَيْسَ بِحَالِفٍ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى. وَعَنْهُ رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّهُ يَكُونُ يَمِينًا لِأَنَّ الْحَقَّ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ حَقِيَتُهُ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ وَاَللَّهِ الْحَقِّ وَالْحَلِفُ بِهِ مُتَعَارَفٌ. وَلَهُمَا أَنَّهُ يُرَادُ بِهِ طَاعَةُ اللَّهِ تَعَالَى، إذْ الطَّاعَاتُ حُقُوقُهُ فَيَكُونُ حَلِفًا بِغَيْرِ اللَّهِ، قَالُوا: وَلَوْ قَالَ وَالْحَقِّ يَكُونُ يَمِينًا، وَلَوْ قَالَ حَقًّا لَا يَكُونُ يَمِينًا؛ لِأَنَّ الْحَقَّ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْمُنَكَّرُ يُرَادُ بِهِ تَحْقِيقُ الْوَعْدِ. الشَّرْحُ: وَقَوْلُهُ (وَكَذَا إذَا قَالَ لِلَّهِ فِي الْمُخْتَارِ) احْتِرَازٌ عَمَّا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَوْ قَالَ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ لَا أُكَلِّمَ فُلَانًا أَنَّهَا لَيْسَتْ بِيَمِينٍ، إلَّا أَنْ يَنْوِيَ لِأَنَّ الصِّيغَةَ صِيغَةُ النَّذْرِ وَيَحْتَمِلُ مَعْنَى الْيَمِينِ، وَلَا أَثَرَ لِتَغْيِيرِ الْإِعْرَابِ فِي الْمُقْسَمِ بِهِ نَصْبًا وَجَرًّا فِي مَنْعِ صِحَّةِ الْقَسَمِ لِأَنَّ الْعَوَامَّ لَا يُمَيِّزُونَ بَيْنَ وُجُوهِ الْإِعْرَابِ. وَقَوْلُهُ (قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ) ظَاهِرٌ. وَقَوْلُهُ (وَالْمُنْكَرُ يُرَادُ بِهِ تَحْقِيقُ الْوَعْدِ) يُرِيدُ الْفَرْقَ بَيْنَ وَالْحَقِّ وَحَقًّا بِأَنَّ الْمُعَرَّفَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلَوْ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ} وَالْحَلِفُ بِهِ مُتَعَارَفٌ فَيَكُونُ يَمِينًا. وَأَمَّا الْمُنَكَّرُ فَهُوَ مَصْدَرٌ مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ فَكَأَنَّهُ قَالَ: أَفْعَلُ هَذَا الْفِعْلَ لَا مَحَالَةَ، وَلَيْسَ فِيهِ مَعْنَى الْحَلِفِ فَضْلًا عَنْ الْيَمِينِ. (وَلَوْ قَالَ أُقْسِمُ أَوْ أُقْسِمُ بِاَللَّهِ أَوْ أَحْلِفُ أَوْ أَحْلِفُ بِاَللَّهِ أَوْ أَشْهَدُ أَوْ أَشْهَدُ بِاَللَّهِ فَهُوَ حَالِفٌ)؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الْحَلِفِ وَهَذِهِ الصِّيغَةُ لِلْحَالِ حَقِيقَةً وَتُسْتَعْمَلُ لِلِاسْتِقْبَالِ بِقَرِينَةٍ فَجُعِلَ حَالِفًا فِي الْحَالِ، وَالشَّهَادَةُ يَمِينٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {قَالُوا نَشْهَدُ إنَّك لَرَسُولُ اللَّهِ} ثُمَّ قَالَ {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} وَالْحَلِفُ بِاَللَّهِ هُوَ الْمَعْهُودُ الْمَشْرُوعُ وَبِغَيْرِهِ مَحْظُورٌ فَصُرِفَ إلَيْهِ. وَلِهَذَا قِيلَ لَا يَحْتَاجُ إلَى النِّيَّةِ. وَقِيلَ لابد مِنْهَا لِاحْتِمَالِ الْعِدَّةِ وَالْيَمِينِ بِغَيْرِ اللَّهِ. الشَّرْحُ: (وَلَوْ قَالَ أُقْسِمُ أَوْ أُقْسِمُ بِاَللَّهِ أَوْ أَحْلِفُ أَوْ أَحْلِفُ بِاَللَّهِ) ظَاهِرٌ. وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ الْيَمِينَ مَا كَانَ حَامِلًا عَلَى فِعْلِ شَيْءٍ أَوْ تَرْكِهِ مُوجِبًا لِلْبَرِّ، وَعِنْدَ فَوَاتِهِ يَكُونُ مُوجِبًا لِلْكَفَّارَةِ عَلَى وَجْهِ الْخِلَافَةِ عَنْ الْبَرِّ. ثُمَّ قَوْلُهُ أُقْسِمُ لَا يَكُونُ مُوجِبًا مِنْ الْبَرِّ شَيْئًا بِمُجَرَّدِهِ لِأَنَّهُ لَمْ تَنْعَقِدْ يَمِينُهُ عَلَى فِعْلِ شَيْءٍ أَوْ تَرْكِهِ فَكَيْفَ يَكُونُ يَمِينًا، وَلِأَنَّ الْكَفَّارَةَ إنَّمَا تَكُونُ لِسَتْرِ الذَّنْبِ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ بِسَبَبِ هَتْكِ حُرْمَةِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَيْسَ فِي أُقْسِمُ مُجَرَّدًا هَتْكُ حُرْمَةِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى فَكَيْفَ يَكُونُ مُوجِبًا لِلْكَفَّارَةِ، وَلِأَنَّ قَوْلَهُ أُقْسِمُ صِيغَةُ فِعْلٍ مُضَارِعٍ فَكَمَا تَكُونُ هِيَ لِلْحَالِ كَذَلِكَ تَكُونُ لِلِاسْتِقْبَالِ، فَلَوْ وَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا لِلْحَالِ لَمْ تَجِبْ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا لِلِاسْتِقْبَالِ وَلَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً قَبْلَ هَذَا فَلَا تَجِبُ بِالشَّكِّ لاسيما فِي حَقِّ الْكَفَّارَةِ فَإِنَّهَا مُلْحَقَةٌ بِالْحُدُودِ حَتَّى إنَّهَا إذَا اجْتَمَعَتْ تَدَاخَلَتْ كَالْحُدُودِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ أَلْحَقَ بِقَوْلِهِ عَلَيَّ يَمِينٌ وَهُوَ يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ ذَكَرَهُ فِي الذَّخِيرَةِ وَغَيْرِهَا. وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ كَلِمَةَ عَلَيَّ لِلْإِيجَابِ وَالْيَمِينُ لَا يُوصَفُ بِالْوُجُوبِ، وَإِنَّمَا مُوجِبُهُ يُوصَفُ بِذَلِكَ وَمُوجِبُهُ الْبَرُّ وَهُوَ غَيْرُ مُمْكِنٍ هُنَا أَوْ خَلْفَهُ وَهُوَ الْكَفَّارَةُ فَيُجْعَلُ كَلَامُهُ إقْرَارًا بِالْكَفَّارَةِ صَوْنًا لِكَلَامِهِ عَنْ الْإِلْغَاءِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ أُقْسِمُ إخْبَارٌ عَنْ الْقَسَمِ فِي الْحَالِ وَمَا ثَمَّ قَسَمٌ لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ جُمْلَةٍ إنْشَائِيَّةٍ يُؤَكِّدُ بِهَا جُمْلَةً أُخْرَى كَمَا تَقَدَّمَ وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ شَيْءٌ فَيُجْعَلُ إقْرَارًا عَنْ مُوجِبِ مُوجِبِ الْيَمِينِ بِطَرِيقِ الْخِلَافَةِ لِذَلِكَ، وَإِذَا كَانَ إقْرَارًا بِوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ لَمْ يَحْتَجْ إلَى وُجُوبِ الْبَرِّ ابْتِدَاءً وَلَا إلَى تَصْوِيرِ هَتْكِ حُرْمَةِ اسْمِ اللَّهِ وَلَا إلَى جَعْلِ تِلْكَ الصِّيغَةِ لِلِاسْتِقْبَالِ، وَهَذَا كَمَا تَرَى يُشِيرُ إلَى أَنَّهُ قَالَ عَلَيَّ يَمِينٌ أَوْ أُقْسِمُ وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ، أَمَّا إذَا قَالَ أُقْسِمُ لَأَفْعَلَن كَذَا أَوْ عَلَيَّ يَمِينٌ أَنْ أَفْعَلَ كَذَا لَا يَصِحُّ إقْرَارًا فَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْيَمِينَ عَقْدٌ قَوِيَ بِهِ عَزْمُ الْحَالِفِ عَلَى الْفِعْلِ أَوْ التَّرْكِ وَهُوَ مَوْجُودٌ، وَالْعَادَةُ قَدْ جَرَتْ بِالْيَمِينِ بِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ} وَقَالَ تَعَالَى {وَأَقْسَمُوا بِاَللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} وَقَالَ تَعَالَى {يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ} وَقَالَ تَعَالَى {يَحْلِفُونَ بِاَللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ} وَقَالَ تَعَالَى {قَالُوا نَشْهَدُ إنَّك لَرَسُولُ اللَّهِ} وَقَالَ تَعَالَى {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاَللَّهِ} فَكَمَا جَازَ أَنْ يَكُونَ حَرْفُ الْقَسَمِ مُضْمَرًا جَازَ أَنْ يَكُونَ الْمُقْسَمُ بِهِ أَيْضًا كَذَلِكَ، وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى زُفَرَ فِي عَدَمِ جَوَازِهِ بِدُونِ ذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ. ثُمَّ اُخْتُلِفَ فِي النِّيَّةِ إذَا لَمْ يَذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى، فَقِيلَ: لَا يَحْتَاجُ إلَيْهَا، وَقِيلَ لابد مِنْهَا لِاحْتِمَالِ الْعِدَّةِ وَالْيَمِينِ بِغَيْرِ اللَّهِ. (وَلَوْ قَالَ بِالْفَارِسِيَّةِ سوكند ميخورم بخداي يَكُونُ يَمِينًا)؛ لِأَنَّهُ لِلْحَالِ. وَلَوْ قَالَ سوكند خورم قِيلَ لَا يَكُونُ يَمِينًا وَلَوْ قَالَ بِالْفَارِسِيَّةِ سوكند خورم بِطَلَاقِ زنم لَا يَكُونُ يَمِينًا؛ لِعَدَمِ التَّعَارُفِ. قَالَ: (وَكَذَا قَوْلُهُ لَعَمْرُ اللَّهِ وَأَيْمُ اللَّهِ) لِأَنَّ عَمْرَ اللَّهِ بَقَاءُ اللَّهِ، وَأَيْمُ اللَّهِ مَعْنَاهُ أَيْمَنُ اللَّهِ وَهُوَ جَمْعُ يَمِينٍ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ وَاَللَّهُ وَأَيْمُ صِلَةٌ كَالْوَاوِ، وَالْحَلِفُ بِاللَّفْظَيْنِ مُتَعَارَفٌ. الشَّرْحُ: قَالَ: (وَكَذَا قَوْلُهُ لَعَمْرُ اللَّهِ) هَذَا مَعْطُوفٌ عَلَى أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ أُقْسِمُ إلَخْ، وَالْعَمْرُ بِالْفَتْحِ وَالضَّمِّ الْبَقَاءُ إلَّا أَنَّ الْفَتْحَ غَلَبَ فِي الْقَسَمِ لَا يَجُوزُ فِيهِ الضَّمُّ. قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ: لَعَمْرُ اللَّهِ يَمِينٌ بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {لَعَمْرُك} وَالْعَمْرُ هُوَ الْبَقَاءُ وَالْبَقَاءُ صِفَاتُ الذَّاتِ فَكَأَنَّهُ قَالَ وَاَللَّهِ الْبَاقِي (وَأَيْمُ اللَّهِ) مَعْنَاهُ أَيْمَنُ اللَّهِ وَهُوَ جَمْعُ يَمِينٍ عِنْدَ الْكُوفِيِّينَ. وَقَالَ الْبَصْرِيُّونَ: مَعْنَاهُ وَاَللَّهِ وَكَلِمَةُ أَيْمٌ صِلَةٌ: أَيْ كَلِمَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ كَالْوَاوِ وَالْبَحْثُ فِي قَطْعِ هَمْزَتِهِ وَوَصْلِهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ وَظِيفَةٌ نَحْوِيَّةٌ. قَوْلُهُ (وَالْحَلِفُ بِاللَّفْظَيْنِ) يُرِيدُ بِهِ قَوْلَهُ لَعَمْرُك وَأَيْمُ اللَّهِ (مُتَعَارَفٌ) يُحْلَفُ بِهِمَا فِي الْعَادَةِ وَلَمْ يَرِدْ نَهْيٌ مِنْ الشَّرْعِ فَيَكُونُ يَمِينًا. (وَكَذَا قَوْلُهُ وَعَهْدُ اللَّهِ وَمِيثَاقُهُ) لِأَنَّ الْعَهْدَ يَمِينٌ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَأَوْفَوْا بِعَهْدِ اللَّهِ} وَالْمِيثَاقُ عِبَارَةٌ عَنْ الْعَهْدِ. الشَّرْحُ: وَقَوْلُهُ (وَكَذَا قَوْلُهُ عَهْدُ اللَّهِ وَمِيثَاقُهُ) ظَاهِرٌ. وَمَنْ قَالَ عَلَيَّ نَذْرٌ أَوْ نَذْرُ اللَّهِ أَنْ لَا أَفْعَلَ كَذَا كَانَ يَمِينًا. (وَكَذَا إذَا قَالَ عَلَيَّ نَذْرٌ أَوْ نَذْرُ اللَّهِ) لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ نَذَرَ نَذْرًا وَلَمْ يُسَمِّ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ» الشَّرْحُ: لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ نَذَرَ نَذْرًا وَلَمْ يُسَمِّ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ». وَإِنْ قَالَ إنْ فَعَلْت كَذَا فَهُوَ يَهُودِيُّ أَوْ نَصْرَانِيُّ أَوْ كَافِرٌ تَكُونُ يَمِينًا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا جَعَلَ الشَّرْطَ عَلَمًا عَلَى الْكُفْرِ فَقَدْ اعْتَقَدَهُ وَاجِبَ الِامْتِنَاعِ، وَقَدْ أَمْكَنَ الْقَوْلُ بِوُجُوبِهِ لِغَيْرِهِ بِجَعْلِهِ يَمِينًا كَمَا تَقُولُ فِي تَحْرِيمِ الْحَلَالِ. وَلَوْ قَالَ ذَلِكَ لِشَيْءٍ عَقَدَ فِعْلَهُ فَهُوَ الْغَمُوسُ، وَلَا يَكْفُرُ اعْتِبَارًا بِالْمُسْتَقْبَلِ. وَقِيلَ يَكْفُرُ؛ لِأَنَّهُ تَنْجِيزُ مَعْنًى فَصَارَ كَمَا إذَا قَالَ هُوَ يَهُودِيٌّ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَكْفُرُ فِيهِمَا إنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَمِينٌ، وَإِنْ كَانَ عِنْدَهُ أَنَّهُ يَكْفُرُ بِالْحَلِفِ يَكْفُرُ فِيهِمَا؛ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِالْكُفْرِ حَيْثُ أَقْدَمَ عَلَى الْفِعْلِ. الشَّرْحُ: وَمَنْ قَالَ إنْ فَعَلَ كَذَا فَهُوَ يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ أَوْ كَافِرٌ أَوْ مَجُوسِيٌّ كَانَ يَمِينًا، لِأَنَّهُ لَمَّا جَعَلَ الشَّرْطَ عَلَمًا عَلَى الْكُفْرِ فَقَدْ اعْتَقَدَهُ وَاجِبَ الِامْتِنَاعِ، وَقَدْ أَمْكَنَ الْقَوْلُ بِوُجُوبِهِ لِغَيْرِهِ بِجَعْلِهِ يَمِينًا كَمَا تَقُولُ فِي تَحْرِيمِ الْحَلَالِ وَهَذَا جَوَابُ. مَنْ قَالَ أَنَا بَرِيءٌ مِنْ الْكَعْبَةِ أَوْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ يَكُونُ يَمِينًا وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ كُفْرًا لِأَنَّهُ اعْتَقَدَ أَنَّهُ الْبَرَاءَةُ عَنْ وَاجِبِ الِامْتِنَاعِ، وَقَدْ أَمْكَنَ الْقَوْلُ بِوُجُوبِهِ لِغَيْرِهِ فَكَانَ يَمِينًا، هَذَا هُوَ الْمَوْعُودُ فِيمَا تَقَدَّمَ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ إذَا قَالَ هُوَ يَهُودِيٌّ إنْ فَعَلَ كَذَا هُوَ نَصْرَانِيٌّ إنْ فَعَلَ كَذَا فَهُمَا يَمِينَانِ، وَإِنْ قَالَ هُوَ يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ إنْ فَعَلَ كَذَا فَهُوَ يَمِينٌ وَاحِدَةٌ، لِأَنَّ فِي الْأَوَّلِ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ اللَّفْظَيْنِ تَامٌّ بِذِكْرِ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ، وَفِي الثَّانِي كَلَامٌ وَاحِدٌ حِينَ ذَكَرَ الشَّرْطَ مَرَّةً وَاحِدَةً. وَقَوْلُهُ (وَلَوْ قَالَ ذَلِكَ لِشَيْءٍ قَدْ فَعَلَهُ) يَعْنِي لَوْ حَلَفَ بِهَذَا اللَّفْظِ عَلَى أَمْرٍ مَاضٍ، فَإِنْ كَانَ عِنْدَهُ أَنَّهُ صَادِقٌ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ كَاذِبٌ (فَهُوَ الْغَمُوسُ وَلَا يَكْفُرُ اعْتِبَارًا بِالْمُسْتَقْبَلِ) يَعْنِي كَمَا لَوْ حَلَفَ بِهِ عَلَى أَمْرٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَإِنَّهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ كَانَ يَمِينًا يَكْفُرُ، وَلَا يَكْفُرُ الْحَالِفُ كَذَلِكَ إذَا كَانَ فِي الْمَاضِي (وَقِيلَ) وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ مُقَاتِلٍ (يَكْفُرُ لِأَنَّهُ) عَلَّقَ الْكُفْرَ بِمَا هُوَ مَوْجُودٌ وَالتَّعْلِيقُ بِالْمَوْجُودِ (تَنْجِيزٌ) فَكَأَنَّهُ قَالَ هُوَ يَهُودِيٌّ. قَالَ فِي النِّهَايَةِ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ إذَا كَانَ عَالِمًا يَعْرِفُ أَنَّهُ يَمِينٌ فَلَا يَكْفُرُ بِهِ فِي الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ، وَإِنْ كَانَ جَاهِلًا أَوْ عِنْدَهُ أَنَّهُ يَكْفُرُ بِالْحَلِفِ فَإِنَّهُ يَكْفُرُ فِي الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ لِأَنَّهُ لَمَّا أَقْدَمَ عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ وَعِنْدَهُ أَنَّهُ يَكْفُرُ فَقَدْ رَضِيَ بِالْكُفْرِ. (وَلَوْ قَالَ إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ غَضَبُ اللَّهِ أَوْ سَخَطُ اللَّهِ فَلَيْسَ بِحَلِفٍ) لِأَنَّهُ دُعَاءٌ عَلَى نَفْسِهِ، وَلَا يَتَعَلَّقُ ذَلِكَ بِالشَّرْطِ؛ وَلِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَارَفٍ (وَكَذَا إذَا قَالَ إنْ فَعَلْت كَذَا فَأَنَا زَانٍ أَوْ سَارِقٌ أَوْ شَارِبُ خَمْرٍ أَوْ آكُلُ رِبًا)؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ تَحْتَمِلُ النَّسْخَ وَالتَّبْدِيلَ فَلَمْ تَكُنْ فِي مَعْنَى حُرْمَةِ الِاسْمِ وَلِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُتَعَارَفٍ. الشَّرْحُ: وَقَوْلُهُ (لِأَنَّ حُرْمَةَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ تَحْتَمِلُ النَّسْخَ وَالتَّبْدِيلَ) قَالَ فِي النِّهَايَةِ: أَمَّا الزِّنَا وَالسَّرِقَةُ فَإِنَّهُمَا لَا يَحْتَمِلَانِ النَّسْخَ، وَلَكِنْ ذَلِكَ الْفِعْلُ الْمَقْصُودُ بِالزِّنَا وَالْعَيْنُ الْمَقْصُودَةُ بِالسَّرِقَةِ بِعَيْنِهِ جَازَ أَنْ يَكُونَ حَلَالًا لَهُ بِوَجْهِ النِّكَاحِ وَمِلْكِ الْيَمِينِ فَسَمَّى احْتِمَالَ انْقِلَابِهِمَا مِنْ الْحُرْمَةِ إلَى الْحِلِّ بِالسَّبَبِ الشَّرْعِيِّ نَسْخًا وَتَبْدِيلًا، وَأَمَّا الْخَمْرُ وَالرِّبَا فَيَحْتَمِلَانِ النَّسْخَ. أَمَّا الْخَمْرُ فَظَاهِرٌ أَنَّهَا كَانَتْ حَلَالًا ثُمَّ انْتَسَخَ، وَأَمَّا الرِّبَا فَيَحْتَمِلُ النَّسْخَ فِي نَفْسِهِ وَإِنْ لَمْ يَرِدْ النَّسْخُ فِي حَقِّهِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَحِلُّ فِي دَارِ الْحَرْبِ. وَأَقُولُ: فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ لَفٌّ وَنَشْرٌ عَلَى غَيْرِ السَّنَنِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ نَسْخًا مُتَعَلِّقٌ بِشُرْبِ الْخَمْرِ وَأَكْلِ الرِّبَا. وَقَوْلُهُ (تَبْدِيلًا بِالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَيُرَادُ بِالتَّبْدِيلِ انْقِلَابُ الْمَحَلِّ عَلَى مَا ذَكَرَ) وَهَذَا إفَادَةٌ وَالْحَمْلُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ إعَادَةٌ، وَالْحَمْلُ عَلَى الْأُولَى أَوْلَى، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ تَكُنْ حُرْمَةُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فِي مَعْنَى حُرْمَةِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ حُرْمَتَهُ لَا تَحِلُّ فِي حَالٍ فَلَا يَتَحَقَّقُ الْيَمِينُ بِذِكْرِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ (وَلِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُتَعَارَفٍ) فَلَا يَكُونُ يَمِينًا. .(فَصْلٌ فِي الْكَفَّارَةِ): الشَّرْحُ: فَصْلٌ: فِي الْكَفَّارَةِ لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ الْمُوجِبِ شَرَعَ فِي بَيَانِ الْمُوجَبِ وَهُوَ الْكَفَّارَةُ، لَكِنْ هِيَ مُوجَبُ الْعَيْنِ عِنْدَ الِانْقِلَابِ لِأَنَّ الْيَمِينَ لَمْ تُشْرَعْ لِلْكَفَّارَةِ بَلْ تَنْقَلِبُ مُوجِبَةً لَهَا عِنْدَ انْتِقَاضِهَا بِالْحِنْثِ، وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ، وَكَوْنُ الْوَاجِبِ أَحَدَ الْأَشْيَاءِ عَلَى التَّخْيِيرِ أَوْ وَاحِدًا مُعَيَّنًا عِنْدَ اللَّهِ إنْ كَانَ مَجْهُولًا عِنْدَنَا، وَعَدَمُ حَمْلِ الشَّافِعِيِّ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ عَلَى مَا هُوَ مِنْ مَذْهَبِهِ وَغَيْرُ ذَلِكَ مُقَرَّرٌ فِي التَّقْرِيرِ فَلْيُطْلَبْ ثَمَّةَ. قَالَ (فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى أَحَدِ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ صَامَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: يُخَيَّرُ لِإِطْلَاقِ النَّصِّ. وَلَنَا قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ وَهِيَ كَالْخَبَرِ الْمَشْهُورِ ثُمَّ الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ فِي بَيَانِ أَدْنَى الْكِسْوَةِ مَرْوِيٌّ عَنْ مُحَمَّدٍ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّ أَدْنَاهُ مَا يَسْتُرُ عَامَّةَ بَدَنِهِ حَتَّى لَا يَجُوزَ السَّرَاوِيلَ، وَهُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّ لَابِسَهُ يُسَمَّى عُرْيَانًا فِي الْعُرْفِ، لَكِنَّ مَا لَا يُجْزِيهِ عَنْ الْكِسْوَةِ يُجْزِيه عَنْ الطَّعَامِ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ. الشَّرْحُ: وَقَوْلُهُ (وَهُوَ الصَّحِيحُ) احْتِرَازٌ عَمَّا رُوِيَ فِي نَوَادِرِ ابْنِ سِمَاعَةَ أَنَّهُ يَجُوزُ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى إنْ أَعْطَى السَّرَاوِيلَ الْمَرْأَةَ لَا يَجُوزُ، وَإِنْ أَعْطَى الرَّجُلَ يَجُوزُ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ رَدُّ الْعُرْيِ بِقَدْرِ مَا تَجُوزُ بِهِ الصَّلَاةُ، لِأَنَّ سَتْرَ الْعَوْرَةِ فَرْضٌ لَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ بِدُونِهِ، أَمَّا مَا زَادَ عَلَيْهِ فَفَضْلٌ يُعْتَبَرُ لِلتَّجَمُّلِ أَوْ لِلتَّدَثُّرِ فَلَا يُؤَاخَذُ عَلَيْهِ فِي الْكِسْوَةِ كَمَا لَا يُؤَاخَذُ عَلَيْهِ الْإِدَامُ فِي الطَّعَامِ. وَقَوْلُهُ (لَكِنْ مَا لَا يَجْزِيهِ عَنْ الْكِسْوَةِ يَجْزِيهِ عَنْ الطَّعَامِ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ) يَعْنِي لَوْ أَعْطَى كُلَّ مِسْكِينٍ نِصْفَ ثَوْبٍ لَمْ يُجْزِهِ عَنْ الْكِسْوَةِ لِأَنَّ الِاكْتِسَاءَ لَا يَحْصُلُ بِهِ وَلَكِنَّهُ يَجْزِيهِ مِنْ الطَّعَامِ إذَا كَانَ نِصْفَ ثَوْبٍ يُسَاوِي نِصْفَ صَاعٍ مِنْ حِنْطَةٍ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَعْطَى عَشَرَةَ مَسَاكِينَ ثَوْبًا بَيْنَهُمْ وَهُوَ ثَوْبٌ كَثِيرُ الْقِيمَةِ يُصِيبُ كُلًّا مِنْهُمْ أَكْثَرُ مِنْ قِيمَةِ ثَوْبٍ لَمْ يُجْزِهِ مِنْ الْكِسْوَةِ لِأَنَّهُ لَا يَكْتَسِي بِهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَلَكِنْ يَجْزِيهِ مِنْ الطَّعَامِ. وَهَلْ يُشْتَرَطُ النِّيَّةُ أَوْ لَا؟ ذَكَرَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ يَجْزِيهِ نَوَى أَنْ يَكُونَ بَدَلًا عَنْ الطَّعَامِ أَوْ لَمْ يَنْوِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ: إذَا نَوَى أَنْ يَكُونَ عَنْ الطَّعَامِ يَجْزِيهِ عَنْ الطَّعَامِ وَإِنْ لَمْ يَنْوِ لَمْ يُجْزِهِ. (وَإِنْ قَدَّمَ الْكَفَّارَةَ عَلَى الْحِنْثِ لَمْ يُجْزِهِ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُجْزِيهِ بِالْمَالِ لِأَنَّهُ أَدَّاهَا بَعْدَ السَّبَبِ وَهُوَ الْيَمِينُ فَأَشْبَهَ التَّكْفِيرَ بَعْدَ الْجَرْحِ. وَلَنَا أَنَّ الْكَفَّارَةَ لِسَتْرِ الْجِنَايَةِ وَلَا جِنَايَةَ هَاهُنَا، وَلَيْسَتْ بِسَبَبٍ لِأَنَّهُ مَانِعٌ غَيْرُ مُفْضٍ، بِخِلَافِ الْجَرْحِ لِأَنَّهُ مُفْضٍ. (ثُمَّ لَا يَسْتَرِدُّ مِنْ الْمِسْكِينِ) لِوُقُوعِهِ صَدَقَةً. الشَّرْحُ: (وَإِنْ قَدَّمَ الْكَفَّارَةَ عَلَى الْحِنْثِ لَمْ يُجْزِهِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَجْزِيهِ بِالْمَالِ لِأَنَّهُ أَدَّاهَا بَعْدَ السَّبَبِ وَهُوَ الْيَمِينُ) لِأَنَّهَا تُضَافُ إلَى الْيَمِينِ، يُقَالُ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ، وَالْوَاجِبَاتُ تُضَافُ إلَى أَسْبَابِهَا حَقِيقَةً، وَالْأَدَاءُ بَعْدَ السَّبَبِ جَائِزٌ لَا مَحَالَةَ (فَأَشْبَهَ التَّكْفِيرَ بَعْدَ الْجُرْحِ. وَلَنَا أَنَّ الْكَفَّارَةَ لِسَتْرِ الْجِنَايَةِ وَلَا جِنَايَةَ هَاهُنَا) لِأَنَّهَا تَحْصُلُ بِهَتْكِ حُرْمَةِ اسْمِ اللَّهِ بِالْحِنْثِ. وَقَوْلُهُ (وَالْيَمِينُ لَيْسَتْ بِسَبَبٍ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ لِأَنَّهُ أَدَّاهَا بَعْدَ السَّبَبِ وَهُوَ الْيَمِينُ. وَوَجْهُهُ أَنَّ السَّبَبَ مَا يَكُونُ مُفْضِيًا، وَالْيَمِينُ غَيْرُ مُفْضٍ إلَى الْكَفَّارَةِ لِأَنَّهَا تَجِبُ بَعْدَ نَقْضِهَا بِالْحِنْثِ، وَإِنَّمَا أُضِيفَتْ إلَيْهَا لِأَنَّهَا تَجِبُ بِحِنْثٍ بَعْدَ الْيَمِينِ كَمَا تُضَافُ الْكَفَّارَةُ إلَى الصَّوْمِ (بِخِلَافِ الْجُرْحِ لِأَنَّهُ مُفْضٍ) إلَى الْمَوْتِ. وَقَوْلُهُ (ثُمَّ لَا يَسْتَرِدُّ مِنْ الْمِسْكِينِ) قِيلَ هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ لَمْ يُجْزِهِ: يَعْنِي وَإِنْ لَمْ يَقَعْ كَفَّارَةً إذَا دَفَعَ إلَى الْمِسْكِينِ قَبْلَ الْحِنْثِ لَكِنْ لَا يَسْتَرِدُّ مِنْهُ لِأَنَّهُ قَصَدَ شَيْئَيْنِ سَتْرَ الْجِنَايَةِ وَحُصُولَ الثَّوَابِ، وَلَمْ يَحْصُلْ الْأَوَّلُ لِعَدَمِ الْجِنَايَةِ فَيَحْصُلُ الثَّانِي فَتَكُونُ قَدْ وَقَعَتْ صَدَقَةً فَلَا رُجُوعَ فِيهَا. قَالَ (وَمَنْ حَلَفَ عَلَى مَعْصِيَةٍ مِثْلَ أَنْ لَا يُصَلِّيَ أَوْ لَا يُكَلِّمَ أَبَاهُ أَوْ لَيَقْتُلَنَّ فُلَانًا يَنْبَغِي أَنْ يُحْنِثَ نَفْسَهُ وَيُكَفِّرَ عَنْ يَمِينِهِ) لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ وَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلِيَأْتِ بِاَلَّذِي هُوَ خَيْرٌ ثُمَّ لِيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ» وَلِأَنَّ فِيمَا قُلْنَاهُ تَفْوِيتُ الْبِرِّ إلَى جَابِرٍ وَهُوَ الْكَفَّارَةُ وَلَا جَابِرَ لِلْمَعْصِيَةِ فِي ضِدِّهِ. الشَّرْحُ: (وَمَنْ حَلَفَ عَلَى مَعْصِيَةٍ مِثْلَ أَنْ لَا يُصَلِّيَ أَوْ لَا يُكَلِّمَ أَبَاهُ أَوْ لَيَقْتُلَن فُلَانًا يَنْبَغِي أَنْ يُحَنِّثَ نَفْسَهُ وَيُكَفِّرَ عَنْ يَمِينِهِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ وَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ بِاَلَّذِي هُوَ خَيْرٌ ثُمَّ لِيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ») مَعْنَاهُ مَنْ حَلَفَ عَلَى مُقْسَمٍ عَلَيْهِ مِنْ فِعْلٍ أَوْ تَرْكٍ لِأَنَّ الْيَمِينَ مُرَكَّبَةٌ مِنْ مُقْسَمٍ بِهِ وَهُوَ بِاَللَّهِ وَمُقْسَمٍ عَلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُهُ لَأَفْعَلَن أَوْ لَا أَفْعَلُ فَكَانَ مِنْ بَابِ ذِكْرِ الْكُلِّ وَإِرَادَةِ الْبَعْضِ. وَفِي وَجْهِ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ قَالَ «وَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا» فَالْمُدَّعِي مُطْلَقٌ، وَالدَّلِيلُ مَشْرُوطٌ بِرُؤْيَةِ غَيْرِهِ خَيْرًا. وَالْجَوَابُ أَنَّ حَالَ الْمُسْلِمِ يَقْتَضِي أَنْ يَرَى تَرْكَ الْمَعْصِيَةِ خَيْرًا مِنْهَا فَيَجْعَلَ الشَّرْطَ مَوْجُودًا نَظَرًا إلَى حَالِهِ. وَقَوْلُهُ (وَلِأَنَّ فِيمَا قُلْنَا) يَعْنِي أَدَاءَ الْكَفَّارَةِ بَعْدَ الْحِنْثِ (تَفْوِيتَ الْبَرِّ إلَى جَابِرٍ وَهُوَ الْكَفَّارَةُ) لِمَا أَنَّ الْجَابِرَ يَقْتَضِي سَبْقَ خَلَلِ الْمَجْبُورِ وَهُوَ خَلَلُ الْيَمِينِ بِالْحِنْثِ فِيمَا قُلْنَا فَتَصْلُحُ الْكَفَّارَةُ جَابِرَةً (وَلَا جَابِرَ لِلْمَعْصِيَةِ فِي ضِدِّهِ) أَيْ فِي ضِدِّ مَا قُلْنَا أَيْ لَا جَابِرَ لِمَعْصِيَةِ الْحِنْثِ فِيمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ لِأَنَّ الْحِنْثَ لَمَّا تَأَخَّرَ عَنْ الْكَفَّارَةِ لَمْ تَصْلُحْ الْكَفَّارَةُ السَّابِقَةُ جَابِرَةً لِذَلِكَ الْحِنْثِ لِأَنَّ الْجَابِرَ لَا يَتَقَدَّمُ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ. وَقَالَ فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ: وَلِأَنَّ فِيمَا قُلْنَا: أَيْ فِي تَحْنِيثِ النَّفْسِ وَالتَّكْفِيرِ بَعْدَ ذَلِكَ تَفْوِيتُ الْبَرِّ إلَى جَابِرٍ وَالْجَابِرُ هُوَ الْكَفَّارَةُ، وَالْفَوَاتُ إلَى جَابِرٍ كَلَا فَوَاتٍ فَتَكُونُ الْمَعْصِيَةُ الْحَاصِلَةُ بِتَفْوِيتِ الْبَرِّ كَلَا مَعْصِيَةٍ لِوُجُودِ الْجَابِرِ، أَمَّا إذَا أَتَى بِالْبَرِّ وَهُوَ تَرْكُ الصَّلَاةِ وَقَطْعُ الْكَلَامِ عَنْ الْأَبِ وَقَتْلُ فُلَانٍ بِغَيْرِ حَقٍّ تَحْصُلُ الْمَعْصِيَةُ بِلَا جَبْرٍ لَهَا فَتَكُونُ الْمَعْصِيَةُ قَائِمَةً لَا مَحَالَةَ، فَلِهَذَا قُلْنَا يُحَنِّثُ نَفْسَهُ وَيُكَفِّرُ عَنْ يَمِينِهِ، وَكِلَا الْوَجْهَيْنِ صَحِيحٌ وَالثَّانِي أَنْسَبُ. (وَإِذَا حَلَفَ الْكَافِرُ ثُمَّ حَنِثَ فِي حَالِ كُفْرِهِ أَوْ بَعْدَ إسْلَامِهِ فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ) لِأَنَّهُ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِلْيَمِينِ لِأَنَّهَا تُعْقَدُ لِتَعْظِيمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَعَ الْكُفْرِ لَا يَكُونُ مُعَظِّمًا وَلَا هُوَ أَهْلُ الْكَفَّارَةِ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ. الشَّرْحُ: (وَإِذَا حَلَفَ الْكَافِرُ ثُمَّ حَنِثَ فِي حَالِ كُفْرِهِ أَوْ بَعْدَ إسْلَامِهِ فَلَا حِنْثَ) أَيْ لَا كَفَّارَةَ (عَلَيْهِ) وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: يُكَفِّرُ بِالْمَالِ لِأَنَّ الْيَمِينَ تُعْقَدُ لِلْبَرِّ وَهُوَ مِنْ أَهْلِهِ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ مِمَّنْ يَعْتَقِدُ تَعْظِيمَ حُرْمَةِ اسْمِ اللَّهِ وَهُوَ يَعْتَقِدُ ذَلِكَ فَكَانَ اعْتِقَادُهُ يَحْمِلُهُ عَلَى الْبَرِّ وَلِهَذَا يُسْتَحْلَفُ فِي الدَّعَاوَى وَالْخُصُومَاتِ (وَلَنَا أَنَّهُ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِلْيَمِينِ لِأَنَّهَا تُعْقَدُ لِتَعْظِيمِ اللَّهِ وَمَعَ الْكُفْرِ لَا يَكُونُ مُعَظَّمًا) إذْ الْكُفْرُ إهَانَةٌ وَاسْتِخْفَافٌ بِالْخَالِقِ وَهُوَ يُنَافِي التَّعَظُّمَ (وَلَا هُوَ أَهْلٌ لِلْكَفَّارَةِ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ) بِخِلَافِ الِاسْتِحْلَافِ فِي الدَّعَاوَى وَالْخُصُومَاتِ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ ظُهُورُ حَقِّ الْمُدَّعِي بِالنُّكُولِ أَوْ الْإِقْرَارِ، وَالْكُفْرُ لَا يُنَافِي ذَلِكَ. (وَمَنْ حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ شَيْئًا مِمَّا يَمْلِكُهُ لَمْ يَصِرْ مُحَرَّمًا وَعَلَيْهِ إنْ اسْتَبَاحَهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ: لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ لِأَنَّ تَحْرِيمَ الْحَلَالِ قَلْبُ الْمَشْرُوعِ فَلَا يَنْعَقِدُ بِهِ تَصَرُّفٌ مَشْرُوعٌ وَهُوَ الْيَمِينُ. وَلَنَا أَنَّ اللَّفْظَ يُنْبِئُ عَنْ إثْبَاتِ الْحُرْمَةِ، وَقَدْ أَمْكَنَ إعْمَالُهُ بِثُبُوتِ الْحُرْمَةِ لِغَيْرِهِ بِإِثْبَاتِ مُوجِبِ الْيَمِينِ فَيُصَارُ إلَيْهِ، ثُمَّ إذَا فَعَلَ مِمَّا حَرَّمَهُ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا حَنِثَ وَوَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ وَهُوَ الْمَعْنَى مِنْ الِاسْتِبَاحَةِ الْمَذْكُورَةِ لِأَنَّ التَّحْرِيمَ إذَا ثَبَتَ تَنَاوَلَ كُلَّ جُزْءٍ مِنْهُ. الشَّرْحُ: قَالَ (وَمَنْ حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ شَيْئًا مِمَّا يَمْلِكُهُ) مِثْلَ أَنْ يَقُولَ حَرَّمْت عَلَى نَفْسِي ثَوْبِي هَذَا أَوْ طَعَامِي هَذَا، (لَمْ يَصِرْ مُحَرَّمًا لِعَيْنِهِ وَعَلَيْهِ إنْ اسْتَبَاحَهُ) أَيْ إنْ فَعَلَ شَيْئًا مِمَّا حَرَّمَهُ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا حَنِثَ وَوَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ لِأَنَّ تَحْرِيمَ الْحَلَالِ قَلْبُ الْمَشْرُوعِ وَقَلْبُ الْمَشْرُوعِ (لَا يَنْعَقِدُ بِهِ تَصَرُّفٌ مَشْرُوعٌ وَهُوَ الْيَمِينُ) كَعَكْسِهِ وَهُوَ تَحْلِيلُ الْحَرَامِ (وَلَنَا أَنَّ اللَّفْظَ يُنْبِئُ عَنْ إثْبَاتِ الْحُرْمَةِ) فَإِمَّا أَنْ تَثْبُتَ بِهِ حُرْمَةٌ لِعَيْنِهَا وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ لِأَنَّهُ قَلْبُ الْمَشْرُوعِ كَمَا ذَكَرْتُمْ أَوْ لِغَيْرِهَا (بِإِثْبَاتِ مُوجِبِ الْيَمِينِ) وَفِي إعْمَالِ اللَّفْظِ وَالْمَصِيرِ إلَى إعْمَالِ اللَّفْظِ عِنْدَ الْإِمْكَانِ وَاجِبٌ فَيُصَارُ إلَيْهِ. وَبِهَذَا التَّقْرِيرِ يَنْدَفِعُ مَا قِيلَ إنَّ بَيْنَ قَوْلِهِ لَمْ يَصِرْ مُحَرَّمًا وَبَيْنَ قَوْلِهِ وَعَلَيْهِ إنْ اسْتَبَاحَهُ تَنَافِيًا لِأَنَّ الِاسْتِبَاحَةَ إنَّمَا تُسْتَعْمَلُ فِيمَا إذَا كَانَ ثَمَّةَ تَحْرِيمٌ. وَقَوْلُهُ (لَمْ يَصِرْ مُحَرَّمًا يُنَافِيهِ)، وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ لَمْ يَصِرْ مُحَرَّمًا مَعْنَاهُ مُحَرَّمًا لِعَيْنِهِ. وَقَوْلُهُ (إنْ اسْتَبَاحَهُ) إشَارَةٌ إلَى الْحُرْمَةِ لِغَيْرِهِ. وَعُورِضَ بِأَنَّ الْيَمِينَ إمَّا أَنْ يُذْكَرَ مُقْسَمٌ بِهِ وَهُوَ عِنْدَ ذِكْرِ اسْمٍ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ أَوْ صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ كَمَا تَقَدَّمَ، أَوْ بِأَنْ يُذْكَرَ شَرْطٌ وَجَزَاءٌ وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْهُمَا بِمَوْجُودٍ فَكَيْفَ صَارَ يَمِينًا. وَأُجِيبَ بِسُقُوطِهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} بَعْدَ قَوْلِهِ {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَك} فِي تَحْرِيمِ الْعَسَلِ أَوْ تَحْرِيمِ مَارِيَةَ، أَطْلَقَ الْأَيْمَانَ عَلَى تَحْرِيمِ الْحَلَالِ وَفَرَضَ تَحِلَّةَ الْأَيْمَانِ، وَالرَّأْيُ لَا يُعَارِضُ النُّصُوصَ السَّمْعِيَّةَ. (وَلَوْ قَالَ كُلُّ حِلٍّ عَلَيَّ حَرَامٌ فَهُوَ عَلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ غَيْرَ ذَلِكَ) وَالْقِيَاسُ أَنْ يَحْنَثَ كَمَا فَرَغَ لِأَنَّهُ بَاشَرَ فِعْلًا مُبَاحًا وَهُوَ التَّنَفُّسُ وَنَحْوُهُ، هَذَا قَوْلُ زَفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْمَقْصُودَ وَهُوَ الْبِرُّ لَا يَتَحَصَّلُ مَعَ اعْتِبَارِ الْعُمُومِ، وَإِذَا سَقَطَ اعْتِبَارُهُ يَنْصَرِفُ إلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ لِلْعُرْفِ فَإِنَّهُ يُسْتَعْمَلُ فِيمَا يَتَنَاوَلُ عَادَةً. وَلَا يَتَنَاوَلُ الْمَرْأَةَ إلَّا بِالنِّيَّةِ لِإِسْقَاطِ اعْتِبَارِ الْعُمُومِ. وَإِذَا نَوَاهَا كَانَ إيلَاءً وَلَا تُصْرَفُ الْيَمِينُ عَنْ الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ، وَهَذَا كُلُّهُ جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ. وَمَشَايِخُنَا قَالُوا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ عَنْ غَيْرِ نِيَّةٍ لِغَلَبَةِ الِاسْتِعْمَالِ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى، وَكَذَا يَنْبَغِي فِي قَوْلِهِ حَلَالٌ يُرْوَى حَرَامٌ لِلْعُرْفِ. وَاخْتَلَفُوا فِي قَوْلِهِ هرجه بردست رَاسَتْ كيرم بِرِوَيْ وَخِيَارْ أَنَّهُ هَلْ تُشْتَرَطُ النِّيَّةُ وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ يُجْعَلُ طَلَاقًا مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ لِلْعُرْفِ. الشَّرْحُ: وَلَوْ قَالَ كُلُّ حِلٍّ عَلَيَّ حَرَامٌ فَهُوَ عَلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ غَيْرَ ذَلِكَ، وَالْقِيَاسُ أَنْ يَحْنَثَ كَمَا فَرَغَ لِأَنَّ قَوْلَهُ هَذَا فِي قُوَّةِ أَنْ يُقَالَ وَاَللَّهِ لَا أَفْعَلُ فِعْلًا حَلَالًا وَقَدْ فَعَلَ فِعْلًا حَلَالًا وَهُوَ التَّنَفُّسُ وَفَتْحُ الْعَيْنَيْنِ فَيَحْنَثُ (وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْيَمِينَ تُعْقَدُ لِلْبَرِّ وَهُوَ لَا يَحْصُلُ مَعَ اعْتِبَارِ الْعُمُومِ) لِامْتِنَاعِ أَنْ لَا يَتَنَفَّسَ وَأَنْ لَا يَفْتَحَ الْعَيْنَيْنِ فَيَعْلَمَ بِدَلَالَةِ الْحَالِ عَدَمَ إرَادَةِ الْعُمُومِ فَيُصَارُ إلَى أَخَصِّ الْخُصُوصِ وَهُوَ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ لِلْعُرْفِ فَإِنَّ الْعَادَةَ جَارِيَةٌ بِاسْتِعْمَالِهِ فِي الْمُتَنَاوَلَاتِ (وَ) إذَا لَمْ يَكُنْ الْعُمُومُ مُرَادًا (لَا يَتَنَاوَلُ الْمَرْأَةَ إلَّا بِالنِّيَّةِ وَإِذَا نَوَاهَا كَانَ إيلَاءً) لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ يَمِينٌ فَيَكُونُ مَعْنَاهُ: وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك، وَهُوَ مِنْ صُوَرِ الْإِيلَاءِ (وَهَذَا جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَمَشَايِخُ بَلْخِي) كَأَبِي بَكْرٍ الْإِسْكَافِ وَأَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ وَالْفَقِيهِ أَبِي جَعْفَرٍ وَبَعْضِ مَشَايِخِ سَمَرْقَنْدَ (قَالُوا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ لِغَلَبَةِ الِاسْتِعْمَالِ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى) وَقَوْلُهُ (وَكَذَا يَنْبَغِي) ظَاهِرٌ وَلَمْ يَذْكُرْ مَا لَوْ قَالَ هرجه بدست جُبْ كيرم بِرِوَيْ وَخِيَارْ فَقَدْ قِيلَ لَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ وَإِنْ نَوَى. وَلَوْ قَالَ هرجه بدست كيرم كَانَ طَلَاقًا قِيلَ يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ وَإِنْ لَمْ يَنْوِ. وَقِيلَ لَا يَقَعُ إلَّا بِالنِّيَّةِ. (وَمَنْ نَذَرَ نَذْرًا مُطْلَقًا فَعَلَيْهِ الْوَفَاءُ) لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ نَذَرَ وَسَمَّى فَعَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِمَا سَمَّى». الشَّرْحُ: (قَوْلُهُ وَمَنْ نَذَرَ نَذْرًا مُطْلَقًا) مِثْلَ أَنْ يَقُولَ لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ سَنَةٍ وَلَمْ يُعَلِّقْهُ بِشَيْءٍ فَعَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِهِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ نَذَرَ وَسَمَّى فَعَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِمَا سَمَّى». (وَإِنْ عَلَّقَ النَّذْرَ بِشَرْطٍ فَوُجِدَ الشَّرْطُ فَعَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِنَفْسِ النَّذْرِ) لِإِطْلَاقِ الْحَدِيثِ، وَلِأَنَّ الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ كَالْمُنَجَّزِ عِنْدَهُ (وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ رَجَعَ عَنْهُ وَقَالَ: إذَا قَالَ إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ حَجَّةٌ أَوْ صَوْمُ سَنَةٍ أَوْ صَدَقَةُ مَا أَمْلِكُهُ أَجْزَأَهُ مِنْ ذَلِكَ كَفَّارَةُ يَمِينٍ. وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ) وَيَخْرُجُ عَنْ الْعُهْدَةِ بِالْوَفَاءِ بِمَا سَمَّى أَيْضًا. وَهَذَا إذَا كَانَ شَرْطًا لَا يُرِيدُ كَوْنَهُ لِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى الْيَمِينِ وَهُوَ الْمَنْعُ وَهُوَ بِظَاهِرِهِ نَذْرٌ فَيَتَخَيَّرُ وَيَمِيلُ إلَى أَيِّ الْجِهَتَيْنِ شَاءَ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ شَرْطًا يُرِيدُ كَوْنَهُ كَقَوْلِهِ إنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي لِانْعِدَامِ مَعْنَى الْيَمِينِ فِيهِ وَهَذَا التَّفْصِيلُ هُوَ الصَّحِيحُ. الشَّرْحُ: (وَإِنْ عَلَّقَ النَّذْرَ بِشَرْطٍ) سَوَاءٌ كَانَ شَرْطًا أَرَادَ كَوْنَهُ أَوْ لَمْ يُرِدْ (فَوُجِدَ الشَّرْطُ فَعَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِنَفْسِ النَّذْرِ) وَلَا تَنْفَعُهُ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ (لِإِطْلَاقِ الْحَدِيثِ) فَإِنَّهُ لَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ كَوْنِ النَّذْرِ مُطْلَقًا أَوْ مُعَلَّقًا بِشَرْطٍ (وَلِأَنَّ الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ كَالْمُنَجَّزِ عِنْدَهُ) وَلَوْ نَجَّزَ النَّذْرَ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ لَمْ تُجْزِهِ الْكَفَّارَةُ فَكَذَا هَاهُنَا (وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ رَجَعَ عَنْهُ) أَيْ عَنْ تَعْيِينِ الْوَفَاءِ بِنَفْسِ النَّذْرِ إلَى الْقَوْلِ بِالتَّخْيِيرِ بَيْنَ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَبَيْنَ الْوَفَاءِ بِذَلِكَ (وَقَالَ إذَا قَالَ إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ حَجَّةٌ أَوْ صَوْمُ شَهْرٍ أَوْ صَدَقَةُ مَا أَمْلِكُهُ أَجْزَأَهُ مِنْ ذَلِكَ كَفَّارَةُ يَمِينٍ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ، وَيَخْرُجُ عَنْ الْعُهْدَةِ بِالْوَفَاءِ بِمَا سَمَّى أَيْضًا) حَتَّى لَوْ كَانَ مُعْسِرًا كَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ أَنْ يَصُومَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَأَنْ يَصُومَ شَهْرًا. وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي النَّوَادِرِ. وَوَجْهُهُ مَا رُوِيَ فِي السُّنَنِ مُسْنَدًا إلَى عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «كَفَّارَةُ النَّذْرِ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ» قَالُوا (هَذَا إذَا كَانَ شَرْطًا لَا يُرِيدُ كَوْنَهُ) لِأَنَّ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ كَمَا تَرَى تَعَارُضًا. فَحَمَلْنَا الْحَدِيثَ الْأَوَّلَ عَلَى النَّذْرِ الْمُرْسَلِ وَعَلَى مُقَيَّدٍ أَرَادَ الْحَالِفُ كَوْنَهُ. وَالثَّانِيَ عَلَى مُقَيَّدٍ لَا يُرِيدُ كَوْنَهُ جَمْعًا بَيْنَ الْآثَارِ، وَالْمَعْنَى الْفِقْهِيُّ فِي ذَلِكَ أَنَّ فِي الشَّرْطِ الَّذِي لَا يُرِيدُ كَوْنَهُ كَلَامَهُ يَشْتَمِلُ عَلَى مَعْنَى النَّذْرِ وَالْيَمِينِ جَمِيعًا، أَمَّا مَعْنَى النَّذْرِ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا مَعْنَى الْيَمِينِ فَلِأَنَّهُ قَصَدَ بِهِ الْمَنْعَ عَنْ إيجَادِ الشَّرْطِ (فَيَتَخَيَّرُ وَيَمِيلُ إلَى أَيِّ الْجِهَتَيْنِ شَاءَ) وَالتَّخْيِيرُ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ بِاعْتِبَارِ مَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ جَائِزٌ كَالْعَبْدِ إذَا أَذِنَ لَهُ مَوْلَاهُ بِالْجُمُعَةِ فَإِنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَدَاءِ الْجُمُعَةِ رَكْعَتَيْنِ وَبَيْنَ أَدَاءِ الظُّهْرِ أَرْبَعًا. وَالنَّذْرُ وَالْيَمِينُ مَعْنَيَانِ مُخْتَلِفَانِ لِأَنَّ النَّذْرَ قُرْبَةٌ مَقْصُودَةٌ وَاجِبٌ لِعَيْنِهِ، وَالْيَمِينُ قُرْبَةٌ مَقْصُودَةٌ وَاجِبٌ لِغَيْرِهِ وَهُوَ صِيَانَةُ حُرْمَةِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى (بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ شَرْطًا يُرِيدُ كَوْنَهُ كَقَوْلِهِ إنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي لِانْعِدَامِ مَعْنَى الْيَمِينِ فِيهِ) وَهُوَ الْمَنْعُ لِأَنَّ قَصْدَهُ إظْهَارُ الرَّغْبَةِ فِيمَا جَعَلَهُ شَرْطًا. قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَهَذَا التَّفْصِيلُ) أَيْ الَّذِي ذَكَرْنَا بَيْنَ شَرْطٍ لَا يُرِيدُ كَوْنَهُ وَبَيْنَ شَرْطٍ يُرِيدُهُ (هُوَ الصَّحِيحُ) وَفِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ حَصْرَ الصِّحَّةِ فِيهِ مِنْ حَيْثُ الرِّوَايَةُ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَنَّهُ غَيْرُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَإِنْ أَرَادَ حَصْرَهَا فِيهِ مِنْ حَيْثُ الدِّرَايَةُ لِدَفْعِ التَّعَارُضِ فَالدَّفْعُ مُمْكِنٌ مِنْ حَيْثُ حَمْلُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْمُرْسَلِ وَالْآخَرِ عَلَى الْمُعَلَّقِ مِنْ غَيْرِ تَفْرِقَةٍ بَيْنَ مَا يُرِيدُ كَوْنَهُ وَمَا لَا يُرِيدُهُ، عَلَى أَنَّ فِيهِ إيمَاءً إلَى الْقُصُورِ فِي الذَّهَابِ إلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ. قَالَ (وَمَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ وَقَالَ إنْ شَاءَ اللَّهُ مُتَّصِلًا بِيَمِينِهِ فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ) لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ وَقَالَ إنْ شَاءَ اللَّهُ فَقَدْ بَرَّ فِي يَمِينِهِ» إلَّا أَنَّهُ لابد مِنْ الِاتِّصَالِ لِأَنَّهُ بَعْدَ الْفَرَاغِ رُجُوعٌ وَلَا رُجُوعَ فِي الْيَمِينِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. الشَّرْحُ: وَمَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ أَيْ عَلَى مُقْسَمٍ عَلَيْهِ مِنْ فِعْلٍ أَوْ تَرْكٍ وَقَالَ إنْ شَاءَ اللَّهُ مُتَّصِلًا بِيَمِينِهِ فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ وَقَالَ إنْ شَاءَ اللَّهُ فَقَدْ بَرَّ فِي يَمِينِهِ» رَوَاهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. وَقَوْلُهُ (عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «فَقَدْ بَرَّ فِي يَمِينِهِ») مَعْنَاهُ لَا يَحْنَثُ أَبَدًا لِعَدَمِ انْعِقَادِ الْيَمِينِ وَقَوْلُهُ (إلَّا أَنَّهُ لابد مِنْ الِاتِّصَالِ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ (لِأَنَّهُ بَعْدَ الْفَرَاغِ رُجُوعٌ وَلَا رُجُوعَ فِي الْيَمِينِ) فَإِنْ قُلْت: هَذَا تَعْلِيلٌ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ فَإِنَّ الْحَدِيثَ بِإِطْلَاقِهِ لَا يَفْصِلُ بَيْنَ الْمُنْفَصِلِ وَالْمُتَّصِلِ. قُلْت: الدَّلَائِلُ الدَّالَّةُ مِنْ النُّصُوصِ وَغَيْرِهَا عَلَى لُزُومِ الْعُقُودِ هِيَ الَّتِي تُوجِبُ الِاتِّصَالَ، فَإِنَّ جَوَازَ الِاسْتِثْنَاءِ مُنْفَصِلًا يُفْضِي إلَى إخْرَاجِ الْعُقُودِ كُلِّهَا مِنْ الْبُيُوعِ وَالْأَنْكِحَةِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ أَنْ تَكُونَ مُلْزِمَةً، وَفِي ذَلِكَ مِنْ الْفَسَادِ مَا لَا يَخْفَى، وَهَذَا التَّعْلِيلُ يُوَافِقُ تِلْكَ الْأَدِلَّةَ، فَيُحْمَلُ حَدِيثُ الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى الِاتِّصَالِ تَوْفِيقًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ جَوَازُ الِاسْتِثْنَاءِ مُنْفَصِلًا وَفِيهِ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. .(بَابُ الْيَمِينِ فِي الدُّخُولِ وَالسُّكْنَى): وَقِيلَ هَذَا إذَا كَانَتْ الصُّفَّةُ ذَاتَ حَوَائِطَ أَرْبَعَةٍ، وَهَكَذَا كَانَتْ صِفَافُهُمْ. وَقِيلَ الْجَوَابُ مُجْرًى عَلَى إطْلَاقِهِ وَهُوَ الصَّحِيحُ. الشَّرْحُ: (بَابُ الْيَمِينِ فِي الدُّخُولِ وَالسُّكْنَى) لَمَّا كَانَ انْعِقَادُ الْيَمِينِ عَلَى فِعْلِ شَيْءٍ أَوْ تَرْكِهِ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ ذِكْرِ أَنْوَاعِ الْأَفْعَالِ الْوَارِدَةِ فِي الْيَمِينِ فَذَكَرَهَا فِي أَبْوَابٍ وَقَدَّمَ الدُّخُولَ وَالسُّكْنَى عَلَى غَيْرِهِمَا مِنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَنَحْوِهِمَا لِأَنَّ أَوَّلَ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْإِنْسَانُ الَّذِي يَتَحَقَّقُ مِنْهُ الْيَمِينُ بَعْدَ وُجُودِهِ مَسْكَنٌ يَدْخُلُ فِيهِ وَيَسْكُنُهُ ثُمَّ يَتَوَارَدُ عَلَيْهِ سَائِرُ الْأَفْعَالِ مِنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَغَيْرِهِ، وَإِلَيْهِ وَقَعَتْ الْإِشَارَةُ فِي قَوْله تَعَالَى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اُعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَاَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ. الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً} الْآيَةَ، وَالدُّخُولُ عِبَارَةٌ عَنْ الِانْتِقَالِ مِنْ الظَّاهِرِ إلَى الْبَاطِنِ، وَالسُّكْنَى عِبَارَةٌ عَنْ الْكَوْنِ فِي مَكَان عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِقْرَارِ مَبِيتًا لِأَهْلِهِ (قَوْلُهُ وَمَنْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ بَيْتًا) ظَاهِرٌ وَالْبِيعَةُ مُتَعَبَّدُ النَّصَارَى وَالْكَنِيسَةُ لِلْيَهُودِ (قَوْلُهُ لِأَنَّ الْبَيْتَ مَا أُعِدَّ لِلْبَيْتُوتَةِ وَهَذِهِ الْبِقَاعُ مَا أُعِدَّتْ لَهَا) اُعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّ اللَّهَ سَمَّى الْكَعْبَةَ بَيْتًا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ} الْآيَةَ، وَسَمَّى الْمَسَاجِدَ بُيُوتًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ} الْآيَةَ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْأَيْمَانَ مَبْنَاهَا عَلَى الْعُرْفِ لَا عَلَى أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ: أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّى بَيْتَ الْعَنْكَبُوتِ بَيْتًا وَمُطْلَقُ اسْمِ الْبَيْتِ فِي الْيَمِينِ لَا يَتَنَاوَلُهُ. وَاسْتُشْكِلَ بِمَا قَالَهُ فِي الْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ إذَا حَلَفَ لَا يَهْدِمُ بَيْتًا فَهَدَمَ بَيْتَ الْعَنْكَبُوتِ حَنِثَ، وَسَيَجِيءُ الْجَوَابُ إنْ شَاءَ اللَّهُ (وَكَذَا إذَا دَخَلَ دِهْلِيزَ أَوْ ظُلَّةَ بَابِ الدَّارِ) قَالَ فِي الْمُغْرِبِ: ظُلَّةُ الْبَابِ هِيَ السُّدَّةُ الَّتِي فَوْقَ الْبَابِ. وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ (وَالظُّلَّةُ تَكُونُ عَلَى السِّكَّةِ) أَرَادَ بِهَا السَّابَاطَ الَّذِي يَكُونُ عَلَى بَابِ الدَّارِ وَلَا يَكُونُ فَوْقَهُ بِنَاءٌ، وَإِنَّمَا لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّهُ لَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْبَيْتِ وَلِعَدَمِ الْبَيْتُوتَةِ فِيهِ، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ فَوْقَهُ بِنَاءٌ، إلَّا أَنَّ مِفْتَحَهُ إلَى الطَّرِيقِ لَا يَحْنَثُ إذَا كَانَ عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَى بَيْتِ شَخْصٍ بِعَيْنِهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ جُمْلَةِ بَيْتِهِ (قَوْلُهُ وَقِيلَ إذَا كَانَ الدِّهْلِيزُ) ظَاهِرٌ قَوْلُهُ وَإِنْ دَخَلَ صُفَّةً حَنِثَ لِأَنَّهَا تُبْنَى لِلْبَيْتُوتَةِ فِيهَا فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ فَصَارَ كَالشَّتْوِيِّ وَالصَّيْفِيِّ الَّذِي يُبْنَى لِلْبَيْتُوتَةِ فِيهِ شِتَاءً أَوْ صَيْفًا، وَقِيلَ هَذَا إذَا كَانَتْ الصُّفَّةُ ذَاتَ حَوَائِطَ أَرْبَعَةٍ (وَهَكَذَا كَانَتْ صِفَافُهُمْ) أَيْ صِفَافُ أَهْلِ الْكُوفَةِ. ذُكِرَ عَنْ أَبِي حَازِمٍ الْقَاضِي أَنَّ هَذِهِ أَشْكَلَتْ عَلَيَّ حَتَّى دَخَلْت الْكُوفَةَ، فَرَأَيْت صِفَافَهُمْ مُبَوَّبَةً فَعَلِمْت أَنَّ الْأَيْمَانَ وَضْعُهَا عَلَى تَعَارُفِهِمْ (وَقِيلَ الْجَوَابُ مُجْرًى عَلَى إطْلَاقِهِ) يَعْنِي سَوَاءً كَانَتْ ذَاتَ حَوَائِطَ أَرْبَعَةٍ أَوْ ثَلَاثَةٍ (وَهُوَ الصَّحِيحُ) دُونَ الْحَمْلِ عَلَى عُرْفِهِمْ لِأَنَّ الْبَيْتَ اسْمٌ لِمَبْنًى مُسْقَفٍ مَدْخَلُهُ مِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ بُنِيَ لِلْبَيْتُوتَةِ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي الصُّفَّةِ، إلَّا أَنَّ مَدْخَلَهَا أَوْسَعُ فَيَتَنَاوَلُهَا اسْمُ الْبَيْتِ فَيَحْنَثُ. (وَمَنْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ دَارًا فَدَخَلَ دَارًا خَرِبَةً لَمْ يَحْنَثْ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ فَدَخَلَهَا بَعْدَمَا انْهَدَمَتْ وَصَارَتْ صَحْرَاءَ حَنِثَ) لِأَنَّ الدَّارَ اسْمٌ لِلْعَرْصَةِ عِنْدَ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ، يُقَالُ دَارٌ عَامِرَةٌ، وَدَارٌ غَامِرَةٌ وَقَدْ شَهِدَتْ أَشْعَارُ الْعَرَبِ بِذَلِكَ وَالْبِنَاءُ وَصْفٌ فِيهَا غَيْرَ أَنَّ الْوَصْفَ فِي الْحَاضِرِ لَغْوٌ وَفِي الْغَائِبِ مُعْتَبَرٌ. الشَّرْحُ: (وَمَنْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ دَارًا فَدَخَلَ دَارًا خَرِبَةً لَمْ يَحْنَثْ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ فَدَخَلَهَا بَعْدَمَا انْهَدَمَتْ وَصَارَتْ صَحْرَاءَ حَنِثَ) لِأَنَّ الدَّارَ اسْمٌ لِلْعَرْصَةِ عِنْدَ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ، يُقَالُ دَارٌ عَامِرَةٌ وَدَارٌ غَامِرَةٌ، وَقَدْ شَهِدَتْ أَشْعَارُ الْعَرَبِ بِذَلِكَ فَمِنْهَا مَا قَالَ لَبِيدٌ: عَفَتْ الدِّيَارُ مَحَلُّهَا فَمُقَامُهَا بِمِنًى تَأَبَّدَ غُولُهَا فَرِجَامُهَا عَفَا يَعْفُو مُتَعَدٍّ وَلَازِمٌ وَهُنَا لَازِمٌ، وَتَأَبَّدَ الْمَنْزِلُ: أَيْ أَقْفَرَ فَأَلِفَتْهُ الْوُحُوشُ، وَالْغُولُ وَالرِّجَامُ مَوْضِعَانِ. يَقُولُ: عَفَتْ دِيَارُ الْأَحْبَابِ مَا كَانَ مِنْهَا لِلْحُلُولِ وَمَا كَانَ مِنْهَا لِلْإِقَامَةِ، وَهَذِهِ الدِّيَارُ كَانَتْ بِمِنًى وَقَدْ تَوَحَّشَتْ الدِّيَارُ الْغُولِيَّةُ وَالرِّجَامِيَّةُ. وَقَالَ قَائِلُهُمْ: الدَّارُ دَارٌ وَإِنْ زَالَتْ حَوَائِطُهَا وَالْبَيْتُ لَيْسَ بِبَيْتٍ بَعْدَ تَهْدِيمِ وَهَذَا ظَاهِرٌ. وَقَوْلُهُ (وَالْبِنَاءُ وَصْفٌ فِيهَا غَيْرَ أَنَّ الْوَصْفَ فِي الْحَاضِرِ لَغْوٌ وَفِي الْغَائِبِ مُعْتَبَرٌ) لِمَا ذُكِرَ فِي الْأُصُولِ أَنَّ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ لابد وَأَنْ تَكُونَ مَعْلُومًا. فَإِذَا كَانَ مُشَارًا إلَيْهَا كَانَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ مَعْلُومًا فَلَا حَاجَةَ إلَى مُعَرَّفٍ بِخِلَافِ الْمُنَكَّرِ فَإِنَّهُ لَا مُعَرِّفَ لَهُ سِوَى الْوَصْفِ فَيَكُونُ مُعْتَبَرًا. وَاعْتُرِضَ بِوَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا أَنَّ الصِّفَةَ لَوْ كَانَتْ مُعْتَبَرَةً فِي الْمُنَكَّرِ لَمَا وَقَعَ الْمُشْتَرَاةُ لِلْمُوَكِّلِ إذَا وَكَّلَ رَجُلًا بِشِرَاءِ دَارٍ فَاشْتَرَى دَارًا خَرِبَةً لِأَنَّهَا غَيْرُ مَوْصُوفَةٍ وَهَذَا نَقْضٌ إجْمَالِيٌّ. وَالثَّانِي أَنَّ الْبِنَاءَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ دَاخِلًا فِي الْمُسَمَّى أَوْ لَمْ يَكُنْ، فَإِنْ كَانَ دَاخِلًا وَجَبَ أَنْ لَا يَخْتَلِفَ الْحَالُ بِالْغَيْبَةِ وَالْحُضُورِ فِي الدُّخُولِ كَالْعَرْصَةِ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ دَاخِلًا وَجَبَ أَنْ لَا يَخْتَلِفَ الْحَالُ أَيْضًا فِي عَدَمِ الدُّخُولِ كَمَا إذَا حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ رَجُلًا لَا يَتَقَيَّدُ يَمِينُهُ بِرَجُلٍ قَاعِدٍ عَالِمٍ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الصِّفَاتِ الْخَارِجِيَّةِ عَنْهُ وَهَذِهِ مُعَارَضَةٌ. وَأُجِيبَ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّ الدَّارَ فِي الْوَكَالَةِ تُعُرِّفَتْ بِوَجْهٍ لِأَنَّ التَّوْكِيلَ بِشِرَائِهَا إنَّمَا يَصِحُّ عِنْدَ بَيَانِ الثَّمَنِ وَالْمَحَلَّةِ وَلَيْسَتْ فِي الْيَمِينِ كَذَلِكَ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ صِحَّةِ انْعِقَادِ الْوَكَالَةِ صِحَّةُ انْعِقَادِ الْيَمِينِ بِلَا صِفَةٍ. وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ الْبِنَاءَ صِفَةٌ مُتَعَيِّنَةٌ لِلدَّارِ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا بِحُكْمِ الْعُرْفِ لِتَعَيُّنِهِ وَفِي الرِّجَالِ التَّزَاحُمُ فِي الصِّفَاتِ ثَابِتٌ مِنْ الْعِلْمِ وَالْعَقْلِ وَالْقُدْرَةِ وَالصِّنَاعَةِ وَالْحُسْنِ وَالْجَمَالِ، وَهَذِهِ الصِّفَاتُ بِأَسْرِهَا تَمْتَنِعُ إرَادَتُهَا عَادَةً، وَلَيْسَ الْبَعْضُ أَوْلَى مِنْ الْبَعْضِ فِي الْإِرَادَةِ فَتَمْتَنِعُ الْإِرَادَةُ أَصْلًا، كَذَا فِي النِّهَايَةِ مُحَالًا عَلَى الْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ. وَرُدَّ بِأَنَّ الْبِنَاءَ ضِدُّهُ الْخَرَابُ فَكَانَ الدَّارُ مَحَلَّ تَوَارُدِهِمَا فَكَيْفَ صَارَ الْبِنَاءُ صِفَةً مُتَعَيِّنَةً فَهُوَ فِي حَيِّزِ النِّزَاعِ. وَأَقُولُ فِي جَوَابِ الْمُعَارَضَةِ الْمَذْكُورُ مِنْ التَّقْسِيمِ غَيْرُ حَاضِرٍ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ دَاخِلًا فِي الْمُنَكَّرِ لِاحْتِيَاجِهِ إلَى التَّعْرِيفِ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي الْمُعَرَّفِ لِاسْتِغْنَائِهِ عَنْهُ. (وَلَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ فَخَرِبَتْ ثُمَّ بُنِيَتْ أُخْرَى فَدَخَلَهَا يَحْنَثُ) لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الِاسْمَ بَاقٍ بَعْدَ الِانْهِدَامِ، (وَإِنْ جُعِلَتْ مَسْجِدًا أَوْ حَمَّامًا أَوْ بُسْتَانًا أَوْ بَيْتًا فَدَخَلَهُ لَمْ يَحْنَثْ) لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ دَارًا لِاعْتِرَاضِ اسْمٍ آخَرَ عَلَيْهِ، وَكَذَا إذَا دَخَلَهُ بَعْدَ انْهِدَامِ الْحَمَّامِ وَأَشْبَاهِهِ لِأَنَّهُ لَا يَعُودُ اسْمَ الدَّارِيَةِ. الشَّرْحُ: وَلَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ فَخَرِبَتْ ثُمَّ بُنِيَتْ أُخْرَى فَدَخَلَهَا حَنِثَ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الِاسْمَ بَاقٍ بَعْدَ الِانْهِدَامِ، وَإِنْ جُعِلَتْ مَسْجِدًا أَوْ حَمَّامًا أَوْ بُسْتَانًا أَوْ بَيْتًا فَدَخَلَهُ لَمْ يَحْنَثْ لِاعْتِرَاضِ اسْمٍ آخَرَ عَلَيْهِ وَمِنْ ضَرُورَةِ حُدُوثِ هَذَا الِاسْمِ زَوَالُ ذَلِكَ الِاسْمِ، وَالْيَمِينُ قَدْ انْعَقَدَتْ بِمَا يُسَمَّى دَارًا وَلَمْ يَبْقَ. وَقَوْلُهُ (وَكَذَا إذَا دَخَلَ بَعْدَ انْهِدَامِ الْحَمَّامِ) ظَاهِرٌ. (وَإِنْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ هَذَا الْبَيْتَ فَدَخَلَهُ بَعْدَمَا انْهَدَمَ وَصَارَ صَحْرَاءَ لَمْ يَحْنَثْ) لِزَوَالِ اسْمِ الْبَيْتِ لِأَنَّهُ لَا يُبَاتُ فِيهِ، حَتَّى لَوْ بَقِيَتْ الْحِيطَانُ وَسَقَطَ السَّقْفُ يَحْنَثُ لِأَنَّهُ يُبَاتُ فِيهِ وَالسَّقْفُ وَصْفٌ فِيهِ (وَكَذَا إذَا بَنَى بَيْتًا آخَرَ فَدَخَلَهُ لَمْ يَحْنَثْ) لِأَنَّ الِاسْمَ لَمْ يَبْقَ بَعْدَ الِانْهِدَامِ. الشَّرْحُ: قَالَ: (وَإِنْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ هَذَا الْبَيْتَ فَدَخَلَهُ بَعْدَمَا انْهَدَمَ وَصَارَ صَحْرَاءَ لَمْ يَحْنَثْ لِزَوَالِ اسْمِ الْبَيْتِ فَإِنَّهُ لَا يُبَاتُ فِيهِ، حَتَّى لَوْ بَقِيَتْ الْحِيطَانُ وَسَقَطَ السَّقْفُ حَنِثَ لِبَقَاءِ الِاسْمِ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةٌ} فِي بُيُوتٍ مُنْهَدِمَةِ السُّقُوفِ (وَلِأَنَّهُ يُبَاتُ فِيهِ فَكَانَ السَّقْفُ وَصْفًا فِيهِ وَكَذَا إذَا بَنَى بَيْتًا آخَرَ فَدَخَلَهُ لِأَنَّ الِاسْمَ لَمْ يَبْقَ بَعْدَ الِانْهِدَامِ) وَأَنَّهُ صَارَ بَيْتًا بِسَبَبٍ حَادِثٍ، وَاخْتِلَافُ السَّبَبِ يُوجِبُ اخْتِلَافَ الْعَيْنِ فَلَا يَكُونُ دَاخِلًا فِي الْبَيْتِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ فَلَا يَحْنَثُ، كَذَا فِي الشُّرُوحِ. قَالَ (وَمَنْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ فَوَقَفَ عَلَى سَطْحِهَا حَنِثَ) لِأَنَّ السَّطْحَ مِنْ الدَّارِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُعْتَكِفَ لَا يَفْسُدُ اعْتِكَافُهُ بِالْخُرُوجِ إلَى سَطْحِ الْمَسْجِدِ. وَقِيلَ فِي عُرْفِنَا لَا يَحْنَثُ وَهُوَ اخْتِيَارُ الْفَقِيهِ أَبِي اللَّيْثِ. قَالَ (وَكَذَا إذَا دَخَلَ دِهْلِيزَهَا) وَيَجِبُ أَنْ تَكُونَ عَلَى التَّفْصِيلِ الَّذِي تَقَدَّمَ (وَإِنْ وَقَفَ فِي طَاقِ الْبَابِ بِحَيْثُ إذَا أُغْلِقَ الْبَابُ كَانَ خَارِجًا لَمْ يَحْنَثْ) لِأَنَّ الْبَابَ لِإِحْرَازِ الدَّارِ وَمَا فِيهَا فَلَمْ يَكُنْ الْخَارِجُ مِنْ الدَّارِ. الشَّرْحُ: (وَمَنْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ فَوَقَفَ عَلَى سَطْحِهَا) بِالصُّعُودِ إلَيْهِ مِنْ خَارِجٍ (حَنِثَ لِأَنَّ السَّطْحَ مِنْ الدَّارِ) لِأَنَّ الدَّارَ عِبَارَةٌ عَمَّا أَحَاطَ بِهِ الدَّائِرَةُ وَهُوَ حَاصِلٌ فِي عُلُوِّهَا وَسُفْلِهَا (أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُعْتَكِفَ لَا يَفْسُدُ اعْتِكَافُهُ بِالْخُرُوجِ إلَى سَطْحِ الْمَسْجِدِ) وَلَا يَجُوزُ لِلْجُنُبِ وَالْحَائِضِ الْوُقُوفُ عَلَيْهِ، وَلَا يُظَنُّ أَنَّ السَّقْفَ مِنْ الْبِنَاءِ فَيُتَوَهَّمُ التَّنَاقُضُ بَيْنَ كَلَامَيْهِ لِأَنَّهُ قَالَ مِنْ قَبْلُ وَالْبِنَاءُ وَصْفٌ فِيهَا، وَقِيلَ إذَا وَقَفَ عَلَى السَّطْحِ لَا يَحْنَثُ فِي عُرْفِنَا. قَالَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ فِي النَّوَازِلِ: إنْ كَانَ الْحَالِفُ مِنْ بِلَادِ الْعَجَمِ لَا يَحْنَثُ مَا لَمْ يَدْخُلْ الدَّارَ لِأَنَّ النَّاسَ لَا يَعْرِفُونَ ذَلِكَ دُخُولًا فِي الدَّارِ (وَكَذَا إذَا دَخَلَ دِهْلِيزَهَا يَحْنَثُ) ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ مُطْلَقًا. قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَلَى التَّفْصِيلِ الَّذِي تَقَدَّمَ) يَعْنِي بِهِ قَوْلَهُ وَإِذَا أَغْلَقَ الْبَابَ يَبْقَى دَاخِلًا وَهُوَ مُسْقَفٌ. قَوْلُهُ (وَإِنْ وَقَفَ فِي طَاقِ الْبَابِ) ظَاهِرٌ. قَالَ (وَمَنْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ وَهُوَ فِيهَا لَمْ يَحْنَثْ بِالْقُعُودِ حَتَّى يَخْرُجَ ثُمَّ يَدْخُلَ) اسْتِحْسَانًا. وَالْقِيَاسُ أَنْ يَحْنَثَ لِأَنَّ الدَّوَامَ لَهُ حُكْمُ الِابْتِدَاءِ. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الدُّخُولَ لَا دَوَامَ لَهُ لِأَنَّهُ انْفِصَالٌ مِنْ الْخَارِجِ إلَى الدَّاخِلِ. الشَّرْحُ: وَقَوْلُهُ (وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ) تَقْرِيرُهُ الْقَوْلَ بِالْمُوجِبِ: يَعْنِي سَلَّمْنَا أَنَّ لِلدَّوَامِ حُكْمَ الِابْتِدَاءِ لَكِنْ فِيمَا لَهُ دَوَامٌ، وَالدُّخُولُ لَا دَوَامَ لَهُ لِأَنَّهُ انْفِصَالٌ مِنْ الْخَارِجِ إلَى الدَّاخِلِ وَلَيْسَ لَهُ دَوَامٌ، وَإِطْلَاقُ الِانْتِقَالِ بَدَلَ الِانْفِصَالِ أَوْلَى لِكَوْنِهِ حَرَكَةَ أَبْنِيَةٍ تُسَمَّى نُقْلَةً. (وَلَوْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ هَذَا الثَّوْبَ وَهُوَ لَابِسُهُ فَنَزَعَهُ فِي الْحَالِ لَمْ يَحْنَثْ) وَكَذَا إذَا حَلَفَ لَا يَرْكَبُ هَذِهِ الدَّابَّةَ وَهُوَ رَاكِبُهَا فَنَزَلَ مِنْ سَاعَتِهِ لَمْ يَحْنَثْ، وَكَذَا لَوْ حَلَفَ لَا يَسْكُنُ هَذِهِ الدَّارَ وَهُوَ سَاكِنُهَا فَأَخَذَ فِي النَّقْلَةِ مِنْ سَاعَتِهِ. وَقَالَ زُفَرُ: يَحْنَثُ لِوُجُودِ الشَّرْطِ وَإِنْ قَلَّ. وَلَنَا أَنَّ الْيَمِينَ تُعْقَدُ لِلْبِرِّ فَيُسْتَثْنَى مِنْهُ زَمَانُ تَحْقِيقِهِ (فَإِنْ لَبِثَ عَلَى حَالِهِ سَاعَةً حَنِثَ) لِأَنَّ هَذِهِ الْأَفَاعِيلَ لَهَا دَوَامٌ بِحُدُوثِ أَمْثَالِهَا؛ أَلَا يُرَى أَنَّهُ يُضْرَبُ لَهَا مُدَّةٌ يُقَالُ رَكِبْت يَوْمًا وَلَبِسْت يَوْمًا بِخِلَافِ الدُّخُولِ لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ دَخَلْت يَوْمًا بِمَعْنَى الْمُدَّةِ وَالتَّوْقِيتِ وَلَوْ نَوَى الِابْتِدَاءَ الْخَالِصَ يُصَدَّقُ لِأَنَّهُ مُحْتَمَلُ كَلَامِهِ. الشَّرْحُ: وَقَوْلُهُ (وَلَوْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ هَذَا الثَّوْبَ) ظَاهِرٌ وَقَوْلُ زُفَرَ قِيَاسٌ وَقَوْلُهُمْ اسْتِحْسَانٌ. وَحَاصِلُ كَلَامِهِ أَنَّ الْأَفْعَالَ عَلَى ضَرْبَيْنِ ضَرْبٍ يَقْبَلُ الِامْتِدَادَ وَضَرْبٍ لَا يَقْبَلُهُ وَالْفَاصِلُ بَيْنَهُمَا قَبُولُ التَّأْقِيتِ وَعَدَمِهِ فَمَا قَبِلَ التَّأْقِيتَ قَبِلَ الِامْتِدَادَ وَمَا لَا فَلَا. وَالِاسْتِدَامَةُ عَلَى الْمُمْتَدِّ بِمَنْزِلَةِ الْإِنْشَاءِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} أَيْ فَلَا تَمْكُثْ قَاعِدًا لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَعِظُ النَّاسَ قَاعِدًا، وَعَلَى هَذَا قَالُوا: إذَا قَالَ لَهَا كُلَّمَا رَكِبْت فَأَنْتِ طَالِقٌ فَمَكَثَتْ سَاعَةً يُمْكِنُهَا النُّزُولُ فِيهَا طَلُقَتْ، وَإِنْ مَكَثَتْ مِثْلَهَا طَلُقَتْ أُخْرَى لِأَنَّ لِلدَّوَامِ حُكْمَ الِابْتِدَاءِ، وَكَلِمَةُ كُلَّمَا تَعُمُّ الْأَفْعَالَ فَيَتَكَرَّرُ الْجَزَاءُ بِتَكَرُّرِ الشَّرْطِ. وَنُوقِضَ بِمَا لَوْ قَالَ كُلَّمَا رَكِبْت دَابَّةً فَعَلَيَّ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِدِرْهَمٍ فَرَكِبَ دَابَّةً فَعَلَيْهِ دِرْهَمٌ وَإِنْ طَالَ مُكْثُهُ فِي الرُّكُوبِ، وَلَوْ كَانَ مَا ذَكَرْتُمْ صَحِيحًا لَلَزِمَهُ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ الِاسْتِدَامَةَ فِيمَا يَمْتَدُّ بِمَنْزِلَةِ الْإِنْشَاءِ إذَا لَمْ يَكُنْ الْإِنْشَاءُ الْخَالِصُ غَيْرَ مُرَادٍ، وَلِهَذَا قُلْنَا فِي هَذَا الْفَصْلِ إذَا كَانَ رَاكِبًا وَقْتَ الْيَمِينِ لَزِمَهُ فِي كُلِّ وَقْتٍ يُمْكِنُهُ النُّزُولُ وَالرُّكُوبُ دِرْهَمٌ لِكَوْنِ الْإِنْشَاءِ الْخَالِصِ غَيْرَ مُرَادٍ، وَإِنَّمَا قَالَ بِمَعْنَى الْمُدَّةِ وَالتَّوْقِيتِ احْتِرَازٌ عَمَّا يُقَالُ فِي مَجَارِي كَلَامِهِمْ دَخَلْت يَوْمًا وَخَرَجْت يَوْمًا وَلَكِنْ لَا بِمَعْنَى الْمُدَّةِ وَالتَّوْقِيتِ. وَقَوْلُهُ (وَلَوْ نَوَى الِابْتِدَاءَ الْخَالِصَ يَصْدُقُ لِأَنَّهُ مُحْتَمَلُ كَلَامٍ) سَمَّاهُ مُحْتَمَلًا وَإِنْ كَانَ قَوْلُهُ لَا يَرْكَبُ حَقِيقَةً فِي الِابْتِدَاءِ لِأَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِيهِ إذَا لَمْ يَكُنْ رَاكِبًا، وَأَمَّا إذَا كَانَ رَاكِبًا فَالِابْتِدَاءُ مِنْ مُحْتَمَلَاتِهِ. قَالَ (وَمَنْ حَلَفَ لَا يَسْكُنُ هَذِهِ الدَّارَ فَخَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَتَاعِهِ وَأَهْلِهِ فِيهَا وَلَمْ يُرِدْ الرُّجُوعَ إلَيْهَا حَنِثَ) لِأَنَّهُ يُعَدُّ سَاكِنَهَا بِبَقَاءِ أَهْلِهِ وَمَتَاعِهِ فِيهَا عُرْفًا، فَإِنَّ السُّوقِيَّ عَامَّةَ نَهَارِهِ فِي السُّوقِ وَيَقُولُ أَسْكُنُ سِكَّةَ كَذَا، وَالْبَيْتُ وَالْمَحَلَّةُ بِمَنْزِلَةِ الدَّارِ. وَلَوْ كَانَ الْيَمِينُ عَلَى الْمِصْرِ لَا يَتَوَقَّفُ الْبِرُّ عَلَى نَقْلِ الْمَتَاعِ وَالْأَهْلِ فِيمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّهُ لَا يُعَدُّ سَاكِنًا فِي الَّذِي انْتَقَلَ عَنْهُ عُرْفًا. بِخِلَافِ الْأَوَّلِ وَالْقَرْيَةُ بِمَنْزِلَةِ الْمِصْرِ فِي الصَّحِيحِ مِنْ الْجَوَابِ. ثُمَّ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: لابد مِنْ نَقْلِ كُلِّ الْمَتَاعِ، حَتَّى لَوْ بَقِيَ وَتَدٌ يَحْنَثُ لِأَنَّ السُّكْنَى قَدْ ثَبَتَ بِالْكُلِّ فَيَبْقَى مَا بَقِيَ شَيْءٌ مِنْهُ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ. يُعْتَبَرُ نَقْلُ الْأَكْثَرِ لِأَنَّ نَقْلَ الْكُلِّ قَدْ يَتَعَذَّرُ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ: يُعْتَبَرُ نَقْلُ مَا يَقُومُ بِهِ كَدَخْدَائِيَّتِهِ لِأَنَّ مَا وَرَاء ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ السُّكْنَى. قَالُوا: هَذَا أَحْسَنُ وَأَرْفَقُ بِالنَّاسِ وَيَنْبَغِي أَنْ يَنْتَقِلَ إلَى مَنْزِلٍ آخَرَ بِلَا تَأْخِيرٍ حَتَّى يَبَرَّ، فَإِنْ انْتَقَلَ إلَى السِّكَّةِ أَوْ إلَى الْمَسْجِدِ قَالُوا لَا يَبَرُّ، دَلِيلُهُ فِي الزِّيَادَاتِ أَنَّ مَنْ خَرَجَ بِعِيَالِهِ مِنْ مِصْرِهِ فَمَا لَمْ يَتَّخِذْ وَطَنًا آخَرَ يَبْقَى وَطَنُهُ الْأَوَّلُ فِي حَقِّ الصَّلَاةِ كَذَا هَذَا. وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. الشَّرْحُ: وَقَوْلُهُ (وَمَنْ حَلَفَ لَا يَسْكُنُ هَذِهِ الدَّارَ) يَعْنِي وَهُوَ مُتَأَهِّلٌ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فَخَرَجَ وَمَتَاعُهُ وَأَهْلُهُ فِيهَا. وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ مُتَأَهِّلًا بَلْ هُوَ مِمَّنْ يَعُولُهُ غَيْرُهُ فَخَرَجَ بِنَفْسِهِ لَمْ يَحْنَثْ؛ وَالْمُتَأَهِّلُ إذَا حَلَفَ، فَأَمَّا إنْ حَلَفَ عَلَى الدَّارِ أَوْ الْمِصْرِ أَوْ الْقَرْيَةِ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَلَا بُدَّ مِنْ نَقْلِ أَهْلِهِ وَمَتَاعِهِ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ يَكْتَفِي بِنَقْلِهِ إلَى مِصْرٍ آخَرَ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، وَإِنْ كَانَ الثَّالِثَ فَقَدْ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ حَمَلَهَا بَعْضُهُمْ عَلَى الدَّارِ وَبَعْضُهُمْ عَلَى الْمِصْرِ وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَالْحَاكِمُ فِي ذَلِكَ الْعُرْفُ لَيْسَ إلَّا. ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ النَّقْلِ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ. وَاعْتُرِضَ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ بِأَنَّ سُكْنَاهُ كَانَ بِجَمِيعِ مَا كَانَ مَعَهُ مِنْ الْأَهْلِ وَالْمَتَاعِ، فَإِذَا أَخْرَجَ بَعْضَهُ انْتَفَى سُكْنَاهُ لِأَنَّ الْكُلَّ يَنْتَفِي بِانْتِفَاءِ الْبَعْضِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْكُلَّ يَنْتَفِي بِانْتِفَاءِ جُزْءٍ حَقِيقِيٍّ لَا اعْتِبَارِيٍّ، وَمَا ذَكَرْتُمْ لَيْسَ كَذَلِكَ. وَيَنْبَغِي أَنْ يَنْتَقِلَ إلَى مَنْزِلٍ آخَرَ بِلَا تَأْخِيرٍ حَتَّى يَبَرَّ وَقَالَ فِي الشَّافِي: إنْ لَمْ يُمْكِنْهُ النَّقْلُ مِنْ سَاعَتِهِ بِعُذْرِ اللَّيْلِ أَوْ بِمَنْعِ ذِي سُلْطَانٍ أَوْ عَدَمِ مَوْضِعٍ آخَرَ يَنْتَقِلُ إلَيْهِ لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّ حَالَةَ الضَّرُورَةِ مُسْتَثْنَاةٌ خِلَافًا لِزُفَرَ، وَكَذَلِكَ لَوْ سَدَّ عَلَيْهِ الْبَابَ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى النُّقْلَةِ أَوْ كَانَ شَرِيفًا أَوْ ضَعِيفًا لَا يَقْدِرُ عَلَى نَقْلِ الْمَتَاعِ بِنَفْسِهِ وَلَمْ يَجِدْ أَحَدًا يَنْقُلُهَا لَمْ يَحْنَثْ حَتَّى يَجِدَ مَنْ يَنْقُلُهَا وَيَلْحَقُ الْمَوْجُودُ بِالْمَعْدُومِ لِلْعَذَارِ. وَنُوقِضَ بِمَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ أَنَّ مَنْ قَالَ إنْ لَمْ أَخْرُجْ مِنْ هَذَا الْمَنْزِلِ الْيَوْمَ فَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ فَقَيَّدَ وَمَنَعَ مِنْ الْخُرُوجِ يَحْنَثُ، وَكَذَا لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ وَهِيَ فِي مَنْزِلِ وَالِدِهَا إنْ لَمْ تَحْضُرِي اللَّيْلَةَ مَنْزِلِي فَأَنْتِ طَالِقٌ فَمَنَعَهَا الْوَالِدُ عَنْ الْحُضُورِ حَنِثَ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ فِي مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ شَرْطَ الْحِنْثِ السُّكْنَى، وَأَنَّهُ فِعْلٌ وُجُودِيٌّ لَا يَحْصُلُ بِدُونِ الِاخْتِيَارِ. وَلَا يَحْصُلُ الِاخْتِيَارُ مَعَ وُجُودِ الْمَوَانِعِ الْمَذْكُورَةِ. وَأَمَّا فِي صُورَةِ النَّقْضِ فَشَرْطُ الْحِنْثِ عَدَمُ الْخُرُوجِ وَالْعَدَمُ لَا يَحْتَاجُ إلَى اخْتِيَارٍ (فَإِنْ انْتَقَلَ إلَى السِّكَّةِ أَوْ الْمَسْجِدِ قَالُوا: لَا يَبَرُّ) وَقِيلَ يَبَرُّ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ سَاكِنًا، وَدَلِيلُ الْأَوَّلِ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الزِّيَادَاتِ أَنَّ مَنْ خَرَجَ بِعِيَالِهِ مِنْ مِصْرِهِ فَمَا لَمْ يَتَّخِذْ وَطَنًا آخَرَ يَبْقَى وَطَنُهُ الْأَوَّلُ فِي حَقِّ الصَّلَاةِ كَذَا هَذَا. وَصُورَتُهُ: كُوفِيٌّ نَقَلَ عِيَالَهُ إلَى مَكَّةَ لِيَتَوَطَّنَ بِهَا فَلَمَّا دَخَلَهَا وَتَوَطَّنَ بِهَا بَدَا لَهُ أَنْ يَرْجِعَ إلَى خُرَاسَانَ فَمَرَّ بِالْكُوفَةِ فَإِنَّهُ يُصَلِّي بِهَا رَكْعَتَيْنِ لِأَنَّ وَطَنَهُ بِالْكُوفَةِ انْتَقَضَ بِوَطَنِهِ بِمَكَّةَ، وَإِنْ بَدَا لَهُ فِي الطَّرِيقِ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ مَكَّةَ أَنْ لَا يَسْتَوْطِنَ مَكَّةَ وَيَرْجِعَ إلَى خُرَاسَانَ فَمَرَّ بِالْكُوفَةِ فَإِنَّهُ يُصَلِّي بِالْكُوفَةِ أَرْبَعًا لِأَنَّ وَطَنَهُ بِالْكُوفَةِ قَائِمٌ مَا لَمْ يَتَّخِذْ وَطَنًا آخَرَ، فَكَذَا هَذَا. وَفِي بَعْضِ الشُّرَّاحِ قَوْلُهُ قَالُوا لَا يَبَرُّ مَعْنَاهُ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي طَلَبِ مَسْكَنٍ آخَرَ، أَمَّا إذَا كَانَ وَبَقِيَ عَلَى ذَلِكَ أَيَّامًا فَلَا يَحْنَثُ فِي الصَّحِيحِ وَإِنْ لَمْ يَنْتَفِلْ إلَى السِّكَّةِ أَوْ الْمَسْجِدِ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ طَرْحُ الْأَمْتِعَةِ فِي السِّكَّةِ فَيَصِيرُ ذَلِكَ الْقَدْرُ مُسْتَثْنًى لِلضَّرُورَةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
|